ما هي فصول البارقليط
تشمل فصول البارقليط الجزء الأخير من الإصحاح الثالث عشر من إنجيل القديس يوحنا بالإضافة إلى الأربعة إصحاحات التي تليه كاملةً؛ من الإصحاح الرابع عشر إلى السابع عشر. تُقرأ هذه الفصول في الساعة الأولى من ليلة الجمعة العظيمة، لأنها تشمل على حديث مطول للرب يسوع المسيح مع تلاميذه في ليلة صليبه وموته بالجسد، ويعتبر هذا الحديث امتدادًا لمائدة الإفخارستيا التي صنعها الرب لتلاميذه. كما تُقرأ في إنجيل باكر وقداس عيد العنصرة، وإنجيل صلاة السجدة الأولى. شمل هذا الحديث على كلام كثير عن الروح القدس، لذلك سُميت هذه الفصول بفصول البارقليط أي؛ المعزي أو الشفيع. كما إنها شملت أيضا صلاة المسيح الشفاعية للآب لأجل تلاميذه، وتشمل الإصحاح السابع عشر كله. وَرغم أن الإصحاح السابع عشر لم يذكر شيئًا عن الروح القدس إلا أن معظم آباء الكنيسة اعتبروا أن كل ما فيه إنما يتم بعمل الروح القدس لذلك اعتُبر من فصول البارقليط وتصليه الكنيسة في السجدة الأولى من عيد العنصرة.
معنى كلمة باراقليط[1]
(Παράκλητος) كلمة يونانية تعني “الُمستعان به” أي؛ شخص يستدعى للمساعدة. استخدمت بالأكثر بمعنى قانوني، أي شخص يستدعي للمساعدة أمام المحكمة، لذلك فهي تعني “محامي أو مدافع” “Advocate” وأيضًا تعني “شفيع / وسيط”” Intercessor” و”معين” “Helper” وتعني أيضا ” معزي” “comforter”
حديث المسيح الوداعي مع تلاميذه
خلال مدة تزيد عن ثلاث سنوات بقليل عاش فيها التلاميذ مع يسوع، يسمعون تعاليمه، ويشاهدون معجزاته، والقوات التي كان يصنعها، لم يعملها أحد قبله، إلا انه في هذا الحديث الختامي قبل الصليب جال في فكر تلاميذه كثير من الأفكار والأسئلة تنم عن الحيرة الشديدة، عبر عنها توما قائلا: “يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟” (يو14: 5). أما فيلبس فطلب أن يرى الآب قائلا: ” يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا” (يو14: 8) فكان رد المسيح على توما: ” أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي 7 لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ” (يو14: 6-7). ورده على طلب فيلبس قائلا: ” أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟” (يو 14: 9).
رد المسيح على سؤال توما وطلب فيلبس، كان يحمل نبرة عتاب واندهاش انه بالرغم من كثرة ما تكلم المسيح عن الآب، وإيضاحاته الكثيرة انه جاء ليعمل مشيئة الآب ويتمم عمله ” طعامي ان اعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله” (يو4: 34)، فقد كانت كل حياة المسيح على الأرض هي إستعلانات للآب. إلا انهم بعد كل هذا الزمان لم يعرفوه على حقيقته، ولم يدركوا لاهوته، وانه هو الله الظاهر في الجسد، وانه في المسيح حل كل ملء اللاهوت جسديًّا (كو2: 9) وانه لا يمكن رؤية الآب لأنه غير مرئي لكن يمكن معرفة مجده في وجه يسوع المسيح (2كو4: 6). هذه الضبابية في رؤية المسيح على حقيقته، وبالتالي في معرفة الآب، التي عانى منها توما وفيلبس وبقية التلاميذ تشير إلى أن معرفة المسيح، ومعرفة الآب لا تعتمد على الجهد البشري، لكن هناك حاجة إلى باراقليط (Παράκλητος) .
كما أن الرؤيا تحتاج إلى حواس تم شفائها لأن العين المريضة لا يمكنها رؤية الأشياء على حقيقتها، وطبيعة التلاميذ كمثل باقي الطبيعة البشرية لم تكن قد تجددت بعد قبل موت المسيح وقيامته، لأن تجديد الطبيعة البشرية يستلزم طرد الفساد الذي فيها، وإبادة الموت الذي كان يملك عليها. لذلك كان رد المسيح على سؤال توما يتضمن أن التلاميذ لم يعرفوه هو ولا الآب لكنهم من الآن؛ أي عند اقتراب موته وقيامته سيعرفونه هو وأباه “لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ” (يو14: 7)
مضادة عجيبة
“بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ” (يو16:16). هذه العبارة التي قالها يسوع لتلاميذه تحمل مضادة غريبة، وهذا ما أربك فكر التلاميذ وجعلهم يتسألون فيما بينهم عن معنى هذا الكلام. ” فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هُوَ هذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَنَا؟… لَسْنَا نَعْلَمُ بِمَاذَا يَتَكَلَّمُ” (يو16: 17، 18). قد تكون عبارة المسيح مفهومة إذا قالها بهذا الشكل: “بَعْدَ قَلِيل لاَ تبصرونني لأني ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ”.
لكن دلالة العبارة التي قالها المسيح وحيرت التلاميذ، هي أن التلاميذ لم يعرفوا المسيح على حقيقته حق المعرفة حتى تركهم بالجسد وصعد الى الآب، لكن بصعوده وجلوسيه عن يمين الآب، أرسل لهم الروح القدس والذي به عرفوا المسيح المعرفة الحق لأن الروح يأخذ مما للمسيح ويخبرهم؛ أي يعلن لهم عن حقيقة المسيح ومجده ” ذاك يمجدني”. بالروح القدس يمكن رؤية المسيح واختبار حضوره أفضل بكثير من رؤية العين الجسدية. يقول القديس كيرلس في تفسير هذه الآية: ” فرغم أنه غائب بالجسد، إذ مضى إلى الآب وجلس عن يمينه، فهو لا يزال يسكن بواسطة روحه مع أولئك الذين هم جديرين به، وهو على اتصال دائم مع قديسيه؛ لأنه قد وعد انه لن يتركنا بدون عزاء”[2].
يرصد الأب متى المسكين[3] استخدام القديس يوحنا الإنجيلي لتعبيرين مختلفين عن الرؤية “بعد قليل لا تبصرونني” والتي جاء باليونانية οὐκέτι θεωπεῖτέ με تعبر كلمة ( θεωπεῖτέ)عن الرؤية شبه الصحيحة لا رؤية الحق كما هو، رؤية التصور وليست رؤية الواقع مع إنها مستخدمة هنا عن رؤية المسيح بالجسد المادي قبل موته وقيامته، أي قبل ان يتمجد. اما في “بعد قليل ترونني” جاء في اليونانية ὄψεσθέ με تعبر كلمة ( ὄψεσθέ) عن الرؤية الصحيحة أي رؤية الحق لا تصور فيها ولا خيال مع إنها مستخدمة هنا عن رؤية المسيح بالجسد الممجد الروحاني بعد قيامته. بعدما تمجد المسيح بالقيامة من الأموات، ونفخ في وجه تلاميذه لقبول الروح القدس، أصبحت رؤية التلاميذ للمسيح رؤية حقيقية بعيونهم الروحية عوض رؤيتهم شبه الحقيقية له بعيونهم الجسدية قبل موته وقيامته وعمل الروح القدس فيهم. وحتى بعد صعوده الى السموات؛ أي بعد غيابه عنهم بالجسد، لا يزال القديسون يرونه رؤية الحق، لأن روحه صار ساكنا فيهم. يقول الأب متى المسكين: ” كأنما المسيح يريد ان يقول لتلاميذه: انتم الآن لا ترونني على حقيقتي بالرؤية الصحيحة. ولكن بعد قليل حينما (أكمل) استعلاني واظهر في مجدي، حينئذٍ ترونني حقا؛ سواء بعد قيامتي أو أثناء صعودي… وبالأكثر من يوم الخمسين فصاعدًا، حيث يتدخل الروح القدس ليعطي صورة للمسيح هي الحق، كل الحق!!”[4]
شفيعان / معزيان
” وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، 17 رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ” (يو14: 16-17). يقول القديس كيرلس السكندري: ” الابن يُعرف أنه هو نفسه باركليت أي معزي بالحق وانه سُمي هكذا في الكتب المقدسة لذلك يدعو الروح “معزيا آخر” ؛ ليس على أساس أن الروح يستطيع ان يفعل في القديسين فعلًا آخر أكثر مما يستطيع هو نفسه أن يفعل… هكذا فيسوع يسمي الروح “معزيا آخر” لأنه يريد أن ندرك الروح على أنه يملك صفات شخصية متميزة؛ ولو أنه بسبب أن له مماثلة شديدة للمسيح نفسه ويستطيع أن يعمل بتوافق دقيق نفس الأشياء التي يعملها هو نفسه… وذلك لأن المعزي هو روحه. وفي الحقيقة إن يسوع سماه “روح الحق” وقال أيضا… إنه هو نفسه ” الحق” “[5]
المسيح شفيع
ذكر لقب باركليت ليس للروح القدس فقط بل وللمسيح أيضا. ” إنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ (Παράκλητον) عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ 2 وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا” (1يو2: 1-2). وشفاعة المسيح ووساطته تظهر بشكل واضح في رئاسة كهنوته حيث قدم للآب ذاته كذبيحة بلا عيب عن حياة الجميع، هو الذبيحة وهو أيضا رئيس الكهنة الذي يقدم الذبيحة. قدم الطبيعة البشرية للآب مطهرًا إياها بدمه، وبذلك شفى الطبيعة البشرية فصارت لها حواس مجددة لها قدرة ان ترى وتعرف الآب في وجه يسوع المسيح. يقول القديس كيرلس: ” فلكونه رئيس كهنتنا العظيم والكلي القداسة فانه بشفاعته يهدئ غضب الآب من نحونا مقدما نفسه ذبيحة لأجلنا فهو الذبيحة وهو نفسه كاهننا (الذي يقدم الذبيحة) هو نفسه وسيطنا وهو نفسه ذبيحة بلا لوم الحمل الحقيقي الذي يرفع خطيئة العالم”[6]
أحد معاني كلمة باركليت “محامي”. إذا طبقنا هذا اللقب على يسوع المسيح سيكون كلام تيموثي كلر في كتابه “لقاءات شخصية مع يسوع” قد عبر عن هذا بشكل رائع حيث قال:
محامي الدفاع في المحكمة التي تمثُل أمامها هو أنت (لأنه يمثلك ويتكلم دفاعًا عن قضيتك) … في المحكمة تختفي أنت في محاميك. إن تلعثمت في المحكمة وكان محاميك فصيحًا، فكيف ستبدو أمام الجميع؟ ستبدو فصيحا. ان كنت جاهلًا وكان محاميك عبقريًّا فكيف ستبدو أمام المحكمة؟ عبقريًّا… وإن كسب محاميك القضية فأنت من كسبها. وإن خسر محاميك القضية فقد خسرتها أنت. خلاصة القول: أنت في محاميك[7].
على قياس تشبيه تيموثي كلر نجد أن يسوع هو محامينا. إن كنا أشرارًا، لكن محامينا بار، فنحن نتبرر، وإن كنا نتلعثم في الكلام في صلواتنا، فيسوع محامينا يتكلم عنا، وان كنا جهلاء بمن هو الآب، فالمسيح محامينا يعرف الآب حق المعرفة، وإن كنا جبناء ومغلوبين، فمحامينا المسيح شجاع وغالب. ما علينا فقط هو أن نثبت في محامينا، ومحامينا يثبت فينا.
الروح القدس شفيع
الشفيع الأول يشفع فينا أمام الآب أما الشفيع الثاني فهو يشفع فينا أمام العالم. فحينما نقف أمام الولاة والسلاطين المضطهِدين، لا نتكلم نحن بل روح أبينا هو المتكلم فينا مدافعًا عنا، لأن الروح القدس يعطينا في تلك الساعة فمًا وحكمة لا يستطيع جميع المعاندين أن يقاوموها أو يناقضوها. يقول الأب متى المسكين: «كما أن المسيح هو باركليت (شفيع) البشرية لدى الله الآب “أن اخطأ احد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار” هكذا الروح القدس هو باركليت (شفيع) مسيحيتنا ضد العالم ” متي جاء البارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون انتم أيضا”»[8].
وقد ظهر هذا واضحًا جليًّا في بدايات الكنسة في عصر الآباء الرسل. يحكي لنا سفر أعمال الرسل الإصحاح الرابع عما فعله الكهنة وقائد جند الهيكل مع بطرس ويوحنا بعد شفاء المقعد الذي كان جالسًا عند باب الهيكل “الجميل”، وبعد العظة الرائعة التي ألقاها القديس بطرس، قبض الكهنة على بطرس ويوحنا ووضعوهما في الحبس إلى الغد، وفي الغد اجتمع جميع عشيرة رؤساء الكهنة مع حنان رئيس الكهنة وقيافا، وأقاموا بطرس ويوحنا في الوسط لمحاكمتهما “حينئذٍ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال…” (أع4: 7). وبعد خطاب بطرس أمام المجمع والذي يُعتبر بمثابة ” محاماة/ دفاع” عن الكرازة بيسوع، تعجبوا من أن بطرس ويوحنا العاميين يتكلمان بهذا الدفاع القوي “فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا، وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ، تَعَجَّبُوا فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ” (اع4: 13). هكذا عمل الروح القدس كمدافع ومحامي عن بطرس ويوحنا أمام المجمع.
المعني الأوسع استخدامًا لكلمة “باراقليط” في الكتاب المقدس هي “المعزي” أي الشخص الذي يقوم بالتعزية والتشجيع أثناء التجارب والألم. لكن المعنى الأول للباراقليط؛ أي الشفيع، يتلاقى مع المعنى الثاني؛ أي المعزي، حيث ان التعزية نتيجة للتشفع. ففي تيار المحن والآلام التي نمر بها موجهة إلينا من عالم فاسد وساقط، تأتي تعزيتنا من شفاعة الروح القدس لأجلنا، ومحاماته عنا ضد العالم. بقول القديس أوغسطينوس: “إن المعزي والمحامي كلاهما تفسير لمعنى البارقليط”[9]
كرامة الإنسان الذي يسكن فيه الروح القدس
الذين قبلوا المسيح بالإيمان، واعتمدوا للمسيح، أعطاهم الله السلطان أن يصيروا أولاد الله. أي إنهم صاروا مولودين لا من جسد بل من الله (يو1: 13). والروح الذي سكن فينا يشهد لأروحنا إننا أولاد الله (رو8: 16). بهذا كرامة الإنسان قد ارتفعت، وعلا قدره بسبب نسبه الجديد، فهو ليس بعد مجرد مولود من رجل وامرأة، بل من الله، لذلك فهو أعلى قدرًا من أعظم مواليد النساء. هذا بالضبط ما قاله المسيح في مقارنته بين عظمة يوحنا المعمدان كأعظم مواليد النساء وبين الأصغر في ملكوت السموات. يقول القديس كيرلس السكندري عن هذه المقارنة:
كيف ينبغي ان نفهم قول المخلص “الأصغر في ملكوت السموات اعظم منه”؟ ما هو ملكوت السموات؟ انه عطية الروح القدس حسب المكتوب ” ان ملكوت السموات فيكم” وبالفعل الروح القدس يحل فينا بالإيمان. أترون كيف يرفع المخلص فوق جميع مواليد النساء، الأصغر في ملكوت السموات؟… قال المسيح ان الأصغر في ملكوت السموات أي المعتمد حديثا وليس له بعد أي فضيلة، اعظم منه (من يوحنا المعمدان)، لان المعمدان كان مولودًا من المرأة أما المعتمد فهو مولود من الله وشريك في الطبيعة الإلهية وهو يقتني الروح القدس ويدعى هيكلا لله[10]
العلاقة التي تربط الروح القدس بالنفس التائبة[11]
قدم القديس أنبا مقار في عظاته الخمسين العديد من التشبيهات التي تصف عمق الصلة بين الروح القدس والنفس البشرية. (1) تشبيه السداة واللحمة: السداة هي خيوط النسيج الطولية واللحمة هي الخيوط العرضية. فالالتحام الكائن بين الروح القدس والنفس البشرية يشبه التعانق الحادث بين خيوط السداة القوية الزاهية بخيوط اللحمة الضعيفة الباهتة التي يتكون منها نسيج بهيج له صفة الأقوى. (2) قطعة صخرية مغمورة بالماء. فالماء المحيط بالصخرة من كل الجهات يجعلها أخف وحركتها أسهل. (3) المعجزة التي تمت على يد أليشع النبي حين ألقى قطعة من الخشب في الماء، فالتصق الخشب بالحديد الساقط في قاع المياه وارتفع به لأعلى، الخفيف حمل الثقيل. (4) تشبيه العلاقة السرية بين روح الله والشاروبيم الحامل لعرش الله. ويشرح القديس انبا مقار هذا التشبيه قائلا:
يقص حزقيال النبي المبارك، الرؤيا المجيدة الملهمة التي رآها، ووصفه لهذه الرؤيا يبيّن أنها مليئة بالأسرار التي لا يُنطق بها لقد رأى مركبة الشاروبيم وهي عبارة عن أربعة كائنات روحانية حيَّة، لكل منها أربعة أوجه، واحد منها وجه أسد، وآخر وجه نسر، وآخر وجه ثور، والرابع وجه إنسان. ولكل وجه أجنحة بحيث لا توجد أجزاء خلفية لأي واحد منهم، وظهورهم مملوءة عيونًا، وكذلك بطونهم مشحونة ومزدحمة بالعيون، وليس فيهم أي جزء لم يكن مملوءًا عيونًا. وكان أيضًا لكل وجه بكرات، بكرة في وسط بكرة وكان الروح في البكرات ورأى حزقيال منظر شبه إنسان قدميه كمنظر حجر العقيق (الياقوت) الأزرق. ومركبة الشاروبيم والكائنات الحيَّة كانت تحمل الرب الذي جلس فوقهم. وحيثما شاء أن يسير فإنه يسير والوجه إلى الأمام. ورأى تحت الشاروبيم كمثل يد إنسان تسند وتحمل وهذا الذي رآه النبي كان في جوهره حقيقيًا وأكيدًا، ولكنه يشير كظل مسبق إلى شيء آخر سرّي وإلهي- السر المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال (كو 1: 26)، ولكنه أُظهر في الأزمنة الأخيرة (1 بط 1: 10) بظهور المسيح، فإن السرّ الذي رآه هو سرّ النفس التي كانت ستستقبل ربها وتصير هي ذاتها عرشًا لمجده (مت 25: 31) لأن النفس التي تتمتع بامتياز الاشتراك في روح ونور الله وتتشرب بأشعة جمال مجده غير الموصوف- وهو الذي هيأها لتكون كرسيًا ومسكنًا له- فإنها تصير كلها نورًا وكلها عينًا! ولا يكون فيها جزءًا غير مملوء بعيون النور الروحانيّة. أي ليس فيها جزءًا مظلمًا بل تصير بكليتها نورًا وروحًا، وتمتلئ كلها عيونًا، فلا يكون لها جزءًا خلفي بل في كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام بواسطة الجمال الذي يفوق التعبير الذي لمجد نور المسيح الجالس والراكب عليها.[12] (العظة الأولى من العظات الخمسين)
عمل الروح القدس فينا خلال جهادنا اليومي
+ الروح القدس المعلم والمرشد للحق
” وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ” (يو14: 26). كان المسيح يعلم تلاميذه، فيا لعظم هذه الفرصة التي حاذها التلاميذ وحرمنا نحن منها لأننا لم نتقابل مع المسيح بالجسد. لكن في الحقيقة نحن لم نُحرَمْ من ان نتعلم من المسيح لأنه حيث يحل روح المسيح (الروح القدس) يحل المسيح. يقول القديس ديديموس الضرير في كتابه عن الروح القدس: ” حيثما كان الروح القدس، يكون المسيح أيضا. والمكان الذي يفارقه روح المسيح يفارقه المسيح أيضا”[13].
وهذا يطابق قول معلمنا بولس الرسول ” إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ (أي: لا يتبع المسيح)” (رو8: 9). يمكن أن يطبق مبدأ القديس بولس بالعكس أي؛ إنه أن كان روح المسيح فينا فنحن نتبع المسيح ونتعلم منه. إذن بسكنى الروح القدس فينا أصبح لنا نفس الفرصة التي حاذها التلاميذ أن يتعلموا من المسيح. وإن كنا في وقت ما لا نحتمل بعض تعاليم المسيح ولا نفهمها، لكن الذين أعطوا الفرصة للروح القدس وتنقوا من الأهواء الجسدية، يرشدهم الروح القدس إلى ما هو الحق في تعاليم المسيح. وهذا ما كان يعنيه المسيح بقوله للتلاميذ: ” إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ” (يو16: 12)، فبسبب أن الروح لم يكن قد اعطي بعد للتلاميذ، امتنع المسيح عن قول أمور كثيرة لهم لأنهم على حالهم هذا لم يكن لديهم قدرة على احتمال كل أقوال الرب وفهمها، لكنه وعدهم بأن الروح القدس سيرشدهم ويعلمهم لأن الروح القدس لا يتكلم من نفسه بل بما يسمع من المسيح (أي يعلم نفس ما علم المسيح لأنه واحد معه في الجوهر من جهة لاهوته).
“… ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ” (يو16: 13). يقول القديس ديديموس أيضا في هذا الصدد: ” … لم يقدروا (التلاميذ) أن يحتملوا ثقل الأمور الروحية ” وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ” (يو16: 13) فمن خلال تعليمه وإرشاده ينقلهم من ثقل الحرف، إلى الروح معطي الحياة، الذي فيه وحده يسكن حق الإنجيل”[14]
+الروح القدس يدعونا للتوبة
الروح القدس دائما سبَّاق إلى الدعوة للتوبة، وسباق في تقديم عروض المحبة والتعليم[15] حتى أن النفس الخاطئة لا تستطيع أن تهرب من دَفَعات الروح القدس التي تدفع للرجوع عن جميع الخطايا مهما كثر عددها أو طال زمانها. يقول القديس أنطونيوس: ” وقبل كل شيء فإن الروح القدس يدعوهم (الخطاة) ويسهل عليهم الأمور حتى يحلو لهم الدخول في التوبة ويظهر طرقها على الحقيقة، ليتوبوا بأرواحهم بالقوة ويقمعوا الجسد والروح، حتى يطهرا كلاهما ويصيرا وارثين للحياة الأبدية”[16].
الروح القدس لا يُرغِم النفس على التوبة بل فقط يزكي التوبة أمام النفس، فإن قبلت النفس الدعوة أعانها الروح القدس، وإن رفضت بإصرار تركها. دعوة الروح القدس إلى التوبة تكون من خلال التبكيت. “وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: 9 أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي 10 وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا 11 وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ” (يو16: 8-11). يفسر القديس كيرلس معني “العالم” في هذا النص قائلًا: ” لفظة “العالم” تعني ليس فقط الناس المنشغلين على الدوام بالسعي الى اللذة، والذين يتعلقون بالشر الذي من إبليس، بل تعني أيضا الذين يعيشون في العالم كله حسب روح العالم”[17]. فعل ” يبكت”: ἐλέγξει هو فعل غني المعنى في اللغة اليونانية. فكل المواضع التالية جاءت فيها نفس الكلمة في النص اليوناني للعهد الجديد، لكن تمت ترجمتها للعربية بمعاني مختلفة. جاءت في ” وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُἔλεγξον) ) بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ” (مت 18: 15) بمعني ؛العتاب السري بين اثنين. وجاءت في “وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا ἐλέγχετε” (اف5: 11) بمعني؛ إظهار حقيقة الشيء، كما يُظهر النور قبح الظلمة ، وكما تفضح القداسة رداءة النجاسة. وجاءت في ” لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَἐλέγξαι جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا” (يه 15). ترجمت في العربية الى يعاقب لكنها لا تعني هذا المعني لكنها تعني “يستذنب”[18] أي يثبت عليه الجريمة قبل أن يدينه معطيًّا فرصة للرجوع والتوبة. وجاءت بنفس هذا المعني في كلام المسيح عن نفسه ” مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي ἐλέγχει عَلَى خَطِيَّةٍ؟” (يو8: 46) أي من يقدر أن يثبت على خطيئة؛ أي يستذنبني؟ فإذا وضعنا هذه المعاني لكلمة “يبكت” أي؛ “يعاتب” أو “يظهر حقيقة الشيء” أو “يستذنب” أمامنا، فعندما نقرأ عن عمل الروح القدس في هذه الآية ” وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ ” نجد أن الروح، بشأن الخطية، يعاتب الإنسان سرًا في قلبه دون أن يفضحه ويظهر له طبيعة الخطية وخطورتها على كيانه، ويثبت عليه ارتكابها. وبهذا يدفع الروح الإنسان إلى التوبة. أي أن التبكيت له فعل إيجابي يهدف إلى التعليم والتهذيب لأجل التوبة. لذلك ربط الخطية بعدم الايمان “أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي ” (يو16: 9) لأن عدم الإيمان هو أصل كل خطية ” إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم” ( يو8: 4).
أما بشأن البر، فالروح القدس يكشف طبيعة بر الناموس، وأن الناموس لا يستطيع أن يبرر الإنسان. فشاول الطرسوسي كان متدربًا على بر الناموس وضليعًا فيه، وغيورًا في تطبيقه، ورغم ذلك نراه راضيًّا بقتل استفانوس البريء. كما أن الروح القدس جاء ليبكت وسيتذنب العالم على بره الكاذب وذلك بأن يشهد لحقيقة بر المسيح. فعمل الروح في العالم أن يشهد للمسيح والبر الذي في الإيمان بيسوع المسيح ” وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي” (يو15: 26). وربط البر بذهاب المسيح إلى الآب ” وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا ” (يو16: 10) لأن بر المسيح يظهر بقوته الأزلية في قيامه أمام الآب يشفع في المذنبين مبرئًا كل من يؤمن به. وبشأن الدينونة، يظهر الروح أن رئيس هذا العالم أي إبليس قد دين بقيامة المسيح من بين الأموات ناقضًا الموت وأوجاعه. فالموت كان يد إبليس القوية التي يمارس بها سلطانه على العالم، ويوهم الناس بانه إله، ليسجدوا له.
وبالقيامة والصعود قُطعت يد إبليس التي كان يتسلط بها، ليعلن الله عن نفسه إنه سيد الكون وصاحب السلطان وإنه الديان. لذلك فالمؤمنون الممتلئون بالروح صار لهم السلطان ان يدوسوا الحيات والعقاب أي إبليس تحت أرجلهم. تبكيت الروح القدس أظهر لعقل الإنسان وقلبه، المعاني الحقيقية للخطية والبر والدينونة. فإن كان روح العالم يغير معاني الأشياء الحقيقية الى معاني مزيفة فروح الله يرجع الى قلوبنا وعقولنا المعاني الحقيقة ” وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ” (1كو2: 12). أول واقعة في تاريخ الكنيسة يظهر فيها تبكيت الروح بشكل واضح جدًا كانت في يوم الخمسين بعد سماع الجموع الغفيرة لعظة القديس بطرس، فالسامعون نُخسوا في قلوبهم ” فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَالُوا لِبُطْرُسَ وَلِسَائِرَ الرُّسُلِ: «مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟ ” (اع2: 37). واستمر هذا العمل على مدار تاريخ الكنيسة. وعمل خدام الكلمة حتى يومنا هذا هو إظهار رائحة معرفة المسيح في كل مكان بعمل الروح القدس.
والاستجابة لذلك على وجهين؛ إما القبول وبذلك تكون رائحة حياة لحياة أو الرفض وقسوة القلب وبذلك تكون رائحة موت لموت. فمقاومة الروح والعناد معه قد يؤدي إلى ان تفارق الإنسان النعمة فيشعر بنوع من التخلي. يقول القديس أنطونيوس: “أطلب من أجلكم لكي تقبلوا هذا الروح لأني اعرف أنكم كاملون وقادرون على قبوله لأن كل من يفلح نفسه بهذه الفلاحة فإن الروح يُعطى له… وأعرف أناسًا قبلوه ولما لم يكملوا هذه الفلاحة لم يثبت فيهم”[19] الرسالة الثامنة
دور الروح القدس في نقل مفاعيل خلاص المسيح لنا
لكي ننال ما أنجزه المسيح من أجلنا من أعمال خلاصية، لابد أن نتحد به؛ لأن كل ما أراد المسيح أن يتم فينا، قد جعله يتم أولًا في ناسوته، ونناله نحن باتحادنا به. وسيلة اتحادنا بالمسيح هو الروح القدس، لأن الروح القدس هو روح المسيح. فإن سكن فينا الروح القدس حل المسيح فينا وإن حل المسيح فينا حل الآب معه فينا ” إليه نأتي (أنا وأبي) وعنده نصنع منزلًا” عَبَّرَ القديس بولس الرسول عن ذلك قائلاً: لكي تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف ٣: ١٧). فالروح القدس يعطينا حلولًا سريًّا للمسيح داخل نفوسنا.
يقول القديس كيرلس الكبير: «حينما يحل الروح القدس في إنساننا الداخلي يقال إن المسيح نفسه يسكن فينا وهذا يكون بالفعل.» – شرح يوحنا ١: 33 ويقول أيضا: «الذي يوحدنا بالمسيح مخلصنا إنما هو روحه القدوس» – تفسير يوحنا 15: 1
يؤكد القديس كيرلس أن هناك وسيلتين إلهيتين تجعلنا ندخل في اتحاد كياني بالمسيح، هما الروح القدس والإفخارستيا. فالمسيح يحل فينا روحيا بالروح القدس، وجسديًّا بذبيحة الإفخارستيا المحيية. يقول القديس كيرلس في هذا الصدد: ” الابن يسكن فينا بمعنى جسمي كإنسان وأيضًا بمعنى روحي كإله، إذ يتحد بنا بسر الإفخارستيا بواسطة عمل روحه الفعال ونعمته، إذ يبني أروحنا الى جدة الحياة ويجعلنا شركاء طبيعته الإلهية “[20]
” ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ، كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ” (يو16: 14-15). يذكر الأب متى المسكين: ” أن عمل الروح القدس الأساسي فينا هو أن ينقل إلينا كل ما في المسيح… يأخذ كل صفات المسيح وينقلها إلينا. يأخذ صورة المسيح ويطبعها فينا. فالقديس بولس ينسب تغيير شكلنا إلى شكل المسيح، أساسًا، إلى عمل الروح القدس فينا ” نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ” (2كو3: 18)”[21] والقديس كيرلس يقول: ” إننا نأخذ صورة المسيح وهو يرسم ذاته داخلنا فنتغير عن طريق الروح الذي هو صورته حسب الطبيعة “[22]. فالعمل الأساسي للروح القدس إنه يأخذ مما للمسيح ويعطينا حتى وصل بنا إلى أنه جعلنا نشترك في أهم ما للمسيح وهو بنوته للآب. “بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه الي قلوبكم صارخا يا أبا الآب ” (غل٤: ٦)
يقول الأب متى المسكين: «إن الروح القدس يورثنا علاقة الآب بالابن بصورة حية فعالة في الضمير والعقل بأثر قوي أعظم مما تتركه النار في اللحم حتي أننا نصرخ بملء اليقين والدالة وندعو الله الآب بفم المسيح “يا أبا الآب»[23]. المسيح بواسطة روحه القدوس يفيض علينا بالأشياء التي تخصه ويشركنا معه في كل ما هو خاص به وحده[24]. فالأشياء الموهوبة لنا من الله لا يمكن أن نعرفها إلا بروح الله (1كو2: 12).
دور الروح القدس في صلاتنا
“لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها ” (رو8: 26). إن كان المسيح يشفع فينا بذبيحة نفسه في السماء أمام الآب، فالروح القدس يشفع فينا أمام الله، معنا على الأرض. شفاعة المسيح من خلال دمه المسفوك عن خطايانا، وشفاعة الروح القدس من خلال أنه يئن بأنيننا، أنات لا نفهم نحن معناها لأنها ليست كلمات منطوقة بل أنات غير منطوقة، لكنها مسموعة ومفهومة من الله. يذكر معلمنا بولس في رسالته إلى أهل رومية الإصحاح الثامن أن “الخليقة تئن ” (رو8: 22) و”نحن الذين لنا باكورة الروح نئن في أنفسنا” (رو8: 23)، و”الروح القدس يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها” (رو8: 26). تكرار لفظ “يئن” يعبر عن انتظار حالة آتيه نترجاها ونشتاق إلى الوصول إليها.
بسبب ضعف معرفتنا بالأمور الآتية، لكننا نترجاها، يأخذ الروح هذه الأنات التي لنا، ويئن بها لدى الله لتكون طلباتنا وصلواتنا مسموعة ومقبولة عند الله. الروح وإن كان يلهب قلوبنا اشتياقًا نحو الله فهو أيضا يأخذ هذه الأشواق الخارجة في صورة أنات، ويشفع بها فينا أمام الله.
يقول القديس مكاريوس في عظاته التاسعة عشر: “ليغصب (الإنسان) نفسه إلى الصلاة حينما لا تكون له الصلاة الروحانيّة، وهكذا إذ يراه الله مجاهدًا وغاصبًا بالرغم من معارضة قلبه، فإنه يهب له صلاة الروح الحقيقيّة… والروح نفسه … يعلّمه الصلاة الحقيقيّة… التي كان قبلاً يغصب نفسه إليها”[25] غصب الإنسان نفسه على الصلاة هو نوع من الأنين الذي عندما يشعره الروح فينا، فيئن متشفعًا عنا فتصير صلاتنا صلاة روحية حقيقية.