2 – الإنسان قَبِلَ الروح القدس عند خلقته وفقده بالسقوط
لدى القديس كيرلس الكبير اعتقادٌ راسخٌ بإن النفخة الإلهية في تك 2: 7 كانت لمنح الإنسان الروح القدس،[1] يقول القديس كيرلس: «أعني الإنسان، قد خُلق منذ البدء في عدم فساد. وكان السبب في عدم فساده وفي بقائه في كل فضيلة، هو على وجه اليقين أن روح الله كان يسكن فيه، لأن (الله) نفخ في أنفه نسمة حياة كما هو مكتوب (تك 2: 7).»[2] ويقول الأمر نفسه في موضع آخر: «إن خالق الجميع، إذ أخذ من تراب الأرض وخلق الإنسان «ونفخ في أنفه نسمة حياة» (تك 2: 7). وما هي نسمة الحياة، سوى إنها بالتأكيد روح المسيح الذي يقول «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25).»[3]
ويدافع القديس كيرلس الكبير عن اعتقاده هذا، بقوةٍ، قائلًا:
ولا يضع أحد كلمات تعليم زائف بأن يفترض بأننا قلنا إن النفخة الإلهية قد صارت نفسًا للمخلوق الحي، لأننا ننكر هذا الكلام منقادين في أفكارنا بالتعليم الحق. فإذا افترض أحد أن النفخة الإلهية صارت نفسًا، فليخبرنا هل هي تحولت عن طبيعتها الخاصة وصارت نفسًا، أو أنها قد ظلت كما هي في طبيعتها؟ لأنهم إن قالوا إنها قد تغيرت وأنها تعدت قانون طبيعتها الخاصة فإنهم سيكونون مجدفين؛ لأنهم بهذا يقولون إن الطبيعة التي لا تتحول وهي لا تقبل التغير أزليًّا وإلى الأبد، قد صارت متغيرة؛ بينما لو أنها لم تتحول، بل ظلَّت دائمًا كما كانت على الدوام، بعد خروجها من الله – أي النسمة الإلهية، فكيف انحرفت إلى الخطية، وصارت معرضة لهذا العدد الكبير من الشهوات؟ لأني أعتقد، أنهم لن يقولوا إن الطبيعة الإلهية توجد فيها قابلية للتعدي. ولكن لكي نقول الكلمات المناسبة في الموضوع الذي أمامنا بدون الدخول في براهين طويلة، فإننا يجب أن نكرر مرة أخرى ونقول، -لا يوجد أي إنسان ذو تفكير سليم، يمكن أن يفترض أن النسمة التي صدرت من الجوهر الإلهي صارت نفسًا مخلوقة، بل إنه بعد أن صار للمخلوق نفس أو بالحري بعد أن بلغ إلى كمال طبيعته بوجود النفس والجسد معًا، فإن الخالق طبع عليه ختم الروح القدس، أي ختم طبيعته الخاصة، أي نسمة الحياة، والتي بواسطتها صار المخلوق مُشَكَّلًا بحسب الجمال الأصلي، واكتمل «على صورة ذاك الذي خلقه»،[4] وهكذا وُهبت له الإمكانية لكل شكل من أشكال السمو، بفضل الروح الذي أُعطي ليسكن فيه.[5]
من الاقتباسات السابقة، يمكننا أن نَخْلُصَ إلى أن القديس كيرلس الكبير كان يعتقد اعتقادًا راسخًا بإن النفخة الإلهية في تك 2: 7 هي لسكنى الروح القدس في الإنسان لكي يصبح على صورة الله كشبهه؛ فهي التي تشكله على الجمال الأصلي للصورة، وإنها هي السبب في جعل خلقة الإنسان على غير فساد، رغم أنه أتى من العدم، وإنها قادرة أن تبقيه في كل فضيلة.
لكن الذي حدث بعد ذلك، هو إنه بسبب الحرية التي للإنسان والتي هي ملمح من ملامح الصورة الإلهية فيه، فقد أخطأ فعانى من فقدان الروح، يقول القديس كيرلس: «لكنه وبسبب تلك الخدعة القديمة قد انحرف إلى الخطية، ثم تتابع تدريجيًّا في الغلو في هذه الأمور، ورغم ما تبقى لديه من أمور صالحة عانى من فقدان الروح، وفي النهاية أصبح خاضعًا ليس فقط للفساد، بل عرضة أيضًا لكل الخطايا.»[6] ويضيف قائلًا: «لأنه إذ حاد جدنا بالخديعة فسقط في العصيان والخطية، فلم يحفظ نعمة الروح، وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المُعطى لها من الله….»[7] وبتعبير آخر: «غادر الطبيعة البشرية»[8]
وفي كتابه الكنوز في الثالوث، يوجز القديس كيرلس عقيدته هذه من أول قبول البشرية للروح في خلقتها الأولى ثم استعادتها مرةً أخرى بالمسيح بعد قيامته:
حين سرد لنا موسى الطوباوي قصة خلق الإنسان ومجيئه إلى الوجود، يقول إن الله أخذ من الأرض طينًا وصنع بقوته شكل الجسد الذي يظهر ونفخ في وجهه نسمة حياة، هكذا صار الإنسان نفسًا حيةً (أنظر تك :۲: ۷). إذن، فالنفخة الإلهية التي صارت للإنسان لا يمكننا أن نقول عنها إنها هي النفس ذاتها (لأنها عندئذ تكون غير متغيرة، طالما أتت من طبيعة غير متغيرة)، بل هي الاتحاد بالروح القدس، الذي مُنِحَ من البداية لنفس الإنسان. لأن أي كمال أُعطي للمخلوقات، قد أُعطي بالروح. ولذلك، هذا الوجود الحي الذي تم صنعه، صار بحسب «صورة الله»؛ لأنه خُلِقَ على قياس ذاك بالاتحاد بالروح القدس. وهذه النفخة التي يقول عنها موسى الطوباوي إنها صارت من الله إلى الإنسان، هي ذاتها التي جددها المسيح لنا بعد قيامته من الأموات، عندما نفخ في تلاميذه، قائلا: «خُذُوا الروح القدس» يو 20: 22 وهكذا أخذنا ثانية الصورة الأولى، لتتشبه بذاك الجمال الذي خلقنا عليه، بمشاركة الروح.[9]
3 – الطبيعة البشرية قبلت الروح القدس مُجددًا في المسيح، الذي كان أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة
يرى القديس كيرلس الكبير أن استعادة الطبيعة البشرية لنعمة حيازة الروح القدس كان أمرًا جوهريًّا حتى تعود لحالتها الأولى (الجمال الأصلي للصورة الإلهية) وكذلك لكي يصبح القصد الإلهي في جمع كل خليقة في المسيح أمرًا ممكنًا[10] (أف 1: 15) وكذلك لكي تتمكن الطبيعة البشرية من الثبات في الصالحات[11] ولا تغرق مرة أخرى في الأمور الشريرة. يقول:
لكن حينما قصدَ خالقُ الجميع «أن يجمع كلَّ شيء في المسيح» (أف 1: 10)، وأراد أن يستعيد من جديد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأولى[12]، وَوعدَ أن يعطيها الروح القدس من جديد أيضًا مع المواعيد الأخرى، لأنه ما من سبيل آخر يمكن به أن تعود الطبيعة البشرية إلى الثبات في الصالحات بلا زعزعة. وهو لهذا يحدد وقت حلول الروح علينا، وَيعد قائلًا: «في تلك الأيام (أي في أيام المخلص) أني أسكب روحي على كل بشر» (يو 2: 28). لكنه منذ أن قرر أن يعطينا من غِناه، قد جعل الابن الوحيد يأتي بالجسد على الأرض، أي يصير إنسانًا (مولودًا) من امرأة حسب الكتاب المقدس، فقد بدأ الله الآب يعطي الروحَ من جديد، وكان المسيح أول من قَبلَ الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن «شهد يوحنا قائلًا: إني قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه» (يو 1: 32).[13]
القديس كيرلس الكبير يربط سكنى الروح في البشرية من جديد، بسر التجسد؛ فالسبيل لحيازة الروح القدس، هو في تجسد الابن الوحيد، لأنه الله وهو واحد مع الروح في الجوهر، فهو عندما يتحد بطبيعتنا البشرية، يمكن للطبيعة البشرية فيه أن تقوى على اقتبال الروح مرة أخرى، ولذلك ففي معمودية الرب يُقال إن المسيح قَبلَ الروح كباكورة الطبيعة المتجددة.
ولكن لا يفوت القديس كيرلس أن في معمودية الرب، وحده المسيح الذي قبلَ الروح وليس باقي جنسنا، فقد بقيت هذه العطية محفوظة ومنتظرة أن يُكمل كل شيء أي موت الرب المحي وقيامته وصعوده، وعندئذ يسكبُ الآبُ روحَه على كل بشر، كما وعد بلسان يوئيل النبي، وقد تحقق هذا في يوم الخمسين، والقديس بطرس الرسول ذَكَّرَ جموع الحاضرين في أورشليم بنبوءة يوئيل: «فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الْيَهُودُ وَالسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هذَا مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ وَأَصْغُوا إِلَى كَلاَمِي، لأَنَّ هؤُلاَءِ لَيْسُوا سُكَارَى كَمَا أَنْتُمْ تَظُنُّونَ، لأَنَّهَا السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ النَّهَارِ. بَلْ هذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيِّ. يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا. وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضًا وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ.»
ويربط القديس كيرلس الكبير بين سكيب الروح وبين قيامة المسيح، فيقول:
وإن فحصتم عن السبب في أن سكب الروح قد تَمَّ بعد القيامة وليس قبلها، ستسمعون الإجابة، أن المسيح قد صار وقتئذ باكورة الطبيعة الجديدة، حينما أبطل قيود الموت قام ثانيةً كما قلنا توًا…. والآن إذ ظهر أن وقت حلول الروح علينا كان قد جاء، بعد القيامة من الموت، فنراه وقد «نفخ في تلاميذه، قائلًا: اقبلوا الروح القدس» (يو 20: 22) إذ كان زمن التجديد حقًا على الأبواب حينذاك.[14]
يدرك القديس كيرلس أن المستمع أو القارئ للكلمات، قد تصيبه الحيرة: هل التلاميذ قبلوا الروح القدس في النفخة بعد القيامة (يو 20: 22)؟ أم في يوم الخمسين (أع 2: 1 – 4)؟ فالرب سبق وقال إن الروح لا يأتي إن لم يصعد هو للآب لكي يرسله (راجع يو 16: 7)، ولكنه في (يو 20: 22) ينفخ في وجوه تلاميذه ويقول: اقبلوا الروح القدسَ؟!
يبدأ القديس كيرلس في طرح الاحتمالات القائمة، ولكن في صيغة أسئلة:
ولكن لأن البعض قد يسأل بسبب محبته للمعرفة – وهذا حسن جدًا – أين ومتى أخذ الرسل نعمة الروح القدس؟ هل عندما ظهر لهم المخلّص بعد قيامته ونفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس أم في أيام العنصرة عندما كانوا مجتمعين معًا وفجأة جاء من السماء صوت كهبوب ريح عاصفة. وظهرت لهم ألسنة من نار منقسمة واستقرت على كل واحد منهم. وبدأوا يتكلَّمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع 2: 1-4)؟ أم أننا نفترض أنهم نالوا نعمة مضاعفة في يوم الخمسين؟ أم أننا يجب أن نبقى جاهلين المناسبة التي فيها صار الرسل شركاء الروح القدس؟[15]
بعدما طرح القديس كيرلس الاحتمالات، يبدأ بتوضيح الإشكالية التي جعلت من الوصول إلى إجابة السؤال أمرًا صعبًا وغامضًا بالنسبة للكثيرين؛ ألا وهو أن المسيح أوضح سابقًا لتلاميذه، إنه إن لم ينطلق لا يأتيهم الروح القدس، وبالتأكيد فإن قول المسيح حقٌ، فكيف إذًا يمنحه لهم بعد القيامة بنفخةٍ، وقبل الصعود؟ يقول:
فإذا كان ما ذكره مخلّصنا هنا وما هو مكتوب في سفر الأعمال صحيحًا، فإن السؤال يغرينا بالبحث، خصوصًا لأن المسيح نفسه قال: «خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزّي، ولكن متى ذهبت سوف أرسله إليكم» (يو 16: 7). ومَنْ يسأل سوف يقول أيضًا: «إن الحق الذي هو المسيح لا يكذب وعندما يقول بكلمات واضحة إن المُعزّي لن يأتي للتلاميذ إلاَّ إذا ذهب هو للآب وأنه متى ذهب للآب سوف يرسله أي متى صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. فكيف أعطى الروح القدس فور قيامته وقبل صعوده؟ وبَحثْ هذا الموضوع محيّر وغامض جدًا إذا لم نتذكر إيماننا في المسيح الذي هو الإله القادر على أن يضبط كل كلماته وأن يعطي المعاني الدقيقة لكل كلمة يقولها.[16]
ثم يمضي القديس كيرلس في مناقشة القضية، ولكنه كعادة آباء الإسكندرية، يبدأ باستعراض الأمر من البداية أي منذ خلق الإنسان، ويوضح أن الإنسان المخلوق من تراب الأرض قد نال نصيبًا من الروح القدس حينما نفخ فيه الله نسمة الحياة (تك 2: 7)، وأنه فقدَ هذا النصيب بالسقوط، ولكي يستعيد الروح، كان لا بد للابن أن يتجسدَ ويذبحَ الموتَ بموته، ويقضي على الفساد، ولكي نعلم أنه هو هو الذي خلقنا من البدء ونفخ فينا نسمة الحياة، فإنه نفخ هذه النسمة مجددًا في تلاميذه باعتبارهم باكورة الطبيعة البشرية المتجددة، مانحًا إياهم الروح القدس بهذه النفخة، كما لو أنها إعادة خلق وتكوين للخليقة فتصير خليقة جديدة متمتعةً بالروح القدس. يقول القديس كيرلس:
لقد أعلن المسيح انه سيرسل لنا من السماء المُعزي عندما يصعد إلى الله الآب بكل يقين فعل هذا. لأنه بعد صعوده سكب الروح بغزارة على كل الذين كانوا يرغبون قبوله. لأن كل إنسان يستطيع قبول الروح القدس بالإيمان والمعمودية المقدسة كما قال النبي «سأسكب من روحي على كل جسد» (يوئيل 2: 28). ولكن كان من الضروري بالنسبة لنا أن نرى الابن يمنح لنا مع الآب الروح القدس. لأن الذين آمنوا به (أي بالابن) كان ضروريًا لهم أن يؤمنوا أنه قوَّة الآب الذي خَلَقْ العالم كله وخَلَقْ الإنسان من العدم. لأن الله الآب في البدء بكلمته أخذ من تراب الأرض – كما هو مكتوب – وخَلَقْ الإنسان كائنًا حيًّا له نفس عاقلة حسب إرادته وأناره بنصيب من روحه «ونفخ في أنفه نسمة الحياة» (تك 2: 7). ولكن عندما سقط الإنسان بعصيانه واستُعبد لقوة الموت وفقد كرامته القديمة أعاده الله الآب وجدّده إلى الحياة الجديدة بالابن كما كان في البدء. وكيف جدّده الابن؟ بموته بالجسد ذبح الموت وأعاد الجنس البشري إلى عدم الفساد عندما قام من الموت لأجلنا. ولكي نعلم أنه هو هو الذي في البدء خلقنا وختمنا بالروح القدس، لذلك يمنح مخلّصنا الروح القدس من خلال العلامة المنظورة أي «نفخته» للرسل القديسين لأنهم باكورة الطبيعة البشرية المجدَّدة. وكما كتب موسى عن الخلق الأول أن الله نفخ في أنف الإنسان نسمة الحياة، يحدث نفس الشيء الذي حدث في البدء عندما يجدّد الله الإنسان وهو ما يسجله يوحنا هنا.[17]
يستكمل القديس كيرلس شرحه للأمر، بإنه كان من الضروري أن يرى التلاميذُ المسيحَ مانحًا إياهم الروح بنفخةٍ، حتى يتيقنوا إنه هو هو الذي كان مع الآب من البدء ومنح البشرية الروح، وأنه حقًا كل ما للآب هو له: «وكان من الضروري أن نرى هذا الحق واضحًا ليكون إيماننا بالابن سليمًا لأنه هو الذي يأتي بالروح من فوق وهو الذي منح لنا الروح كما قال «كل ما هو للآب فهو لي» (يو 16: 15) وكما أن الآب له الروح في ذاته هكذا الابن له الروح في ذاته لأنه جوهر واحد معه.»[18]
ثم يأتي القديس كيرلس للجزء الأساسي من أطروحته؛ ألا وهو؛ رؤيته أن المسيح دائمًا حينما يَعِدُ بمنح البشر شيئًا، فإنه يسبق ويعطيهم العربون حتى يتأكدوا من نوال النعمة أو العطية في وقتها المناسب، ويعطي القديس أمثلة متعددة ليدافع عن صحة فكرته:
ومن هذه الحقيقة نستنتج أن كل ما سبق ووعدنا به قد أكمَلَهْ في الوقت المعيّن، ولكنه دائمًا يعطي بشكل جزئي ما وعد بأن يعطيه في المستقبل لأننا عندما ننال العربون نعلم بكل يقين أن ما تكلم به سوف يتحقق كاملًا. لقد أعلن أنه سوف يقيم جميع الموتى وسوف يعيد إلى الحياة كل الذين رقدوا في الأرض أي في القبور. وقال «تأتي ساعة حين يسمع الموتى صوت ابن الله والسامعون يحيون. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28و29). وأراد أن يؤكد لنا أنه قادر على هذا فقال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 2). ولكن لأن معجزة إقامة الموتى جميعًا عظيمة جدًا، بل توجد صعوبة في تصديق عودة الموتى إلى الحياة، لذلك أراد المسيح أن يقدم معونة لنا، معلنًا القيامة مقدَّمًا ومعطيًا علامة عليها بإقامة لعازر وابن الأرملة وأبنة يايرس. وماذا أيضًا؟ قال إن قيامة القديسين مجيدة جدًا: «سيضيئ الأبرار مثل الشمس في ملكوت أبيهم» (مت 13: 43). ولكي نصدّقه ونعرف أنه قال الحق، أعطى قبل الوقت أن نرى هذا المجد فأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى الجبل وتجلَّى أمامهم وأضاء وجهه مثل الشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور (مت 17: 2). وهكذا رغم أنه حدَّد وقتًا معينًا لتحقيق كل شيء إلاَّ أنه كان يعطي بشكل جزئي وفي نطاق محدود قبل الوقت المحدّد كعربون وتذوق مُسبق لما هو متوقع أن يحدث بشكل كامل للخليقة كلها. ولقد فعل هذا لكي لا يتزعزع الإيمان به.[19]
أصبح الآن الطريقُ ممهدًا تمامًا أمام القديس كيرلس ليصل بالقارئ إلى ميناء الخلاص وسلامة التعليم؛ فبعدما أقنع القارئ بحقيقة مَنْحِ المسيح لعربون عطاياه في أوقات سابقة كثيرة، يمكنه (القديس كيرلس) الآن أن يقول الكلام نفسه عن عطية الروح القدس:
وهكذا على نفس المنوال وَعَدَ بأن يُرسل المعزي إلينا بعد صعوده للآب، وحدَّد لذلك الوقت أي بعد صعوده لكي يعطي النعمة للكلّ، إلا أنه قبل الوقت المحدد أعطى بداية النعمة وكدفعة أولى من النعمة وَهَبَ التلاميذ الروح القدس بعد قيامته وبذلك حقق جزئيًا الوعد الذي نطق به لنفس الأسباب التي ذكرناها سابقًا. وهكذا اشتركوا في الروح القدس عندما نفخ قائلًا: «اقبلوا الروح القدس» ومن المستحيل أن يكذب المسيح، وكان من المستحيل أن يقول «اقبلوا» دون أن يُعطي….[20]
ويختتم القديس كيرلس الكبير شرحه، بتوضيح فارق آخر بين عطية الروح في يوم العنصرة وبين النفخة بعد القيامة؛ أن الأخيرة كانت مختصة بالتلاميذ فقط دون سواهم، بينما العنصرة فكانت لجموع المؤمنين. ونعمة العنصرة لم تكن للتلاميذ بداية نعمة الروح القدس (يقصد نعمة التقديس) بل بداية نعمة التكلم بالألسنة:
أما في أيام العنصرة المقدسة فقد أعلن الله علانية نعمته وأظهر مجيء الروح القدس للكل وليس للتلاميذ فقط، ولذلك ظهر مجيء الروح القدس بشكل ألسنة نارية، ولم يكن هذا بالنسبة للتلاميذ بداية نعمة الروح القدس الذي سكن في قلوبهم، ولكن بداية نعمة التكلَّم بالألسنة. كما هو مكتوب إنهم بدأوا يتكلمون بالألسنة كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع 2: 4)، وهذا يعني بداية التكلم بالألسنة وليس بداية التقديس لأن العنصرة بداية عمل العطايا المتنوعة لا سيما الألسنة المختلفة أي بداية عمل الروح القدس الذي فيهم.[21]