يُعتبر الدفاع عن لقب «والدة الإله» ليس دفاعًا عن شخصية القديسة العذراء مريم وكرامتها، بل هو دفاعًا عن سر التقوى العظيم؛ ظهور الله في الجسد. فالعذراء القديسة مريم لم تلد إنسانًا عاديًا، ثم حل أقنوم الكلمة في هذا الإنسان وأعطاه كرامة فصار ابن الله، لكن مولود العذراء كان ناسوته متحدًا اتحادًا أقنوميًا بلاهوت الكلمة منذ كان في أحشائها جنينًا، وهذا ما شعر به الجنين الذي في أحشاء أليصابات نسيبة العذراء، عند لقائهما، فارتكض الجنين بابتهاج في بطن أليصابات عند سماعها لصوت سلام العذراء، واعترفت أليصابات بالروح القدس أن التي أتت إليها هي أم ربها، رغم أن يسوع المسيح لم يكن إلا جنينًا في شهره الأول. فجسد يسوع المسيح أخذ وجوده من اتحاده بأقنوم الكلمة، أي أنه لم توجد لحظة ولا طرفة عين كان ناسوت الابن مفارقًا لاهوته، وهذا يؤكده القديس ساويرس الأنطاكي في قوله: «الجسد لم يأتِ إلى الوجود قبل سكنى الكلمة في رحم العذراء»[1].
وكلام القديس ساويرس يوافق ما نقِره نحن المؤمنون في قانون الإيمان بقولنا: «… الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس، وصُلِب عنا». هذا يعني أن الكلمة نزل من السماء إلى أحشاء العذراء، وبالروح القدس اِتَّحَدَ الكلمة بالطبيعة البشرية المأخوذة من العذراء. فأول خلية في الجنين الذي في بطن العذراء، نشأت متحدةً بأقنوم الكلمة، وبالتالي الجنين هو جنين إلهي قبل ولادته من العذراء، لذا العذراء؛ والدة الإله. يؤكد القديس كيرلس الكبير على هذا الإيمان في رسالته الثانية إلى نسطور: «لأنه لم يولد اولًا إنسانًا عاديًا من العذراء القديسة ثم بعد ذلك حل عليه الكلمة، بل إذ قد اتحد بالجسد الذي من أحشائها، فيقال إن الكلمة قَبِلَ الولادة الجسدية، لكي ينسب إلى نفسه ولادة جسده الخاص»[2] (القديس كيرلس الكبير – الرسالة الرابعة: 4 (الثانية إلى نسطور).)
قانون الإيمان النيقاوي يقر بأن الله الابن نفسه هو الذي نزل من السماء، وتجسد من العذراء، وهو الذي تألم ومات وقام وصعد، فهو ينسب جميع هذه الأفعال إلى الابن الكلمة المتجسد. لم ينسب قانون الإيمان بعض الأفعال لله الابن والبعض الآخر إلى الطبيعة البشرية. فبحلول الكلمة في رحم العذراء القديسة مريم وتجسده، فإن نفس شخص الكلمة الواحد قد أستُعلن أنه هو الكلمة والجسد، إله وإنسان، مُخفى وظاهر.[3] ويقول القديس ساويرس الانطاكي في كتابة ضد النحوي:
وهو (الكلمة) كان في أزلية مشتركة مع الآب والروح القدس، ولكنه عندما أراد أن يصير إنسانًا من أجلنا – بينما يظل بغير تغيير كما هو عليه- سكن كما هو مكتوب في العذراء والدة الإله بطريقة فائقة للعقل. وبالروح القدس وحد بنفسه – من خلال اتحاد طبيعي متزامن – جسدًا (مأخوذًا) منها له روح وعقل، وهذا الجسد هو واحد معنا في الجوهر. ولذلك نقول عن الاتحاد أنه هيبوستاسي (أقنومي)، لأن هذا الجسد تكوَّن وأتى إلى الوجود في الاتحاد ذاته مع الكلمة الذي هو قبل الأزمنة، وفي تزامنه معه (أي مع الكلمة) أخذ الجسد تفرده المحدد داخل الاتحاد. وعلى هذا النحو، ومن الاثنين – أي من اللاهوت والناسوت – يُعرف المسيح بغير تقسيم بأنه عمانوئيل واحد.[4]
الابن الكلمة المولود من الآب بالطبيعة قبل كل الدهور، تنازل وقَبِلَ أن يولد جسديًا من العذراء في ملء الزمان. فكما قبل الابن الكلمة أن يُنسَب إليه كل ما يخص طبيعتنا من تعب، وعطش، وجوع والحاجة إلى النوم، والألم، والفقر، والموت، ما خلا الخطية، قَبِل أيضًا أن يولد جسديًا. فميلاد المسيح من العذراء هو الميلاد الجسدي للكلمة، وليس ميلادًا لإنسان طبيعي، ثم حل فيه الكلمة بالكرامة، لذلك فهي والدة الإله. وإنجيل يوحنا يقول «الكلمة صار جسدًا» (يو1: 14)، أي أن الذي وُلِد من الآب، وُلِد من العذراء جسديًا دون أن يفقد كونه مولودًا من الآب، ودون أن يتغير عن كونه الله الكلمة، وبذلك جعل الجسد الذي أخذه من العذراء جسده الخاص؛ أي جسدًا خاصًا به. فكلام القديس يوحنا الحبيب يؤكد أن المولود جسديًا من العذراء هو الكلمة، وليس جسد إنسان بدون الكلمة ثم حل فيه الكلمة بالكرامة والمصاحبة. ومعلمنا بولس الرسول يؤكد أن الله الآب، أرسله ابنه ليولد من العذراء «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ» (غل4: 4).
القديس كيرلس يؤكد على هذا الإيمان بقوله: «والكلمة إذ قد صار جسدًا لا يكون آخرًا. إنه اتخذ لحمًا ودمًا مثلنا. إنه جعل جسدنا خاصًا به، وولد إنسانًا من امرأة بدون أن يفقد لاهوته، ولا كونه مولودًا من الله الآب، لكن في اتخاذه جسدًا ظل كما هو. إن التعليم الصحيح يحتفظ بهذا في كل مكان. وهكذا سوف نجد أن الآباء القديسين قد فكروا بهذه الطريقة. وهكذا لم يترددوا في تسمية العذراء القديسة بوالدة الإله»[5] (القديس كيرلس الكبير – الرسالة الرابعة: 7 (الثانية إلى نسطور).)
ولئلا يظن أحد أن الكلمة قد أخذ بداية وجوده بتجسده من العذراء، كتب القديس كيرلس في رسالته الثالثة لنسطور قائلًا: «حيث إن العذراء القديسة، ولدت جسديًا، الله متحدًا بالجسد حسب الأقنوم، فنحن نقول إنها والدة الإله، ليس لأن طبيعة الكلمة تأخذ بداية وجودها من الجسد… (لكنه) لأنه وحد الإنساني بنفسه أقنوميًا، فأنه احتمل الولادة الجسدية من بطنها»[6]. (القديس كيرلس الكبير – الرسالة 17: 18 (الثالثة إلى نسطور).)
الإيمان بأن ميلاد المسيح هو ميلاد الكلمة جسديًا هو ما نُصلي به في ثيؤطوكية يوم الاثنين «أشرق جسديًا من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا»، وكلمة أشرق في هذه الإبصالية قوية جدًا في توضيح المعني؛ أي الأزلي الكائن قبل الازمنة هو الذي خرج متجسدًا من بطن العذراء. وهذا ما شرحه القديس كيرلس الكبير في تفسيره للآية الواردة في سفر اشعياء «لأنه ولد لنا ولد ونعطى ابنًا» قائلًا: «الابن الوحيد الذي ولِد في السماء من الآب حسب الطبيعة، وضع نفسه وولد من العذراء حسب الجسد بغير زرع بشر، بل بقوة وفعل الروح القدس.»[7] ويقول أيضًا القديس ساويرس: «الطفل (يسوع) على سبيل المثال، لم يتكون في الرحم بمفرده – كما يعلم الهراطقة – ولكن الله الكلمة منذ عين البداية – أي منذ أول لحظة تكوَّن فيها الجسد المحيَ بروح وعقل داخل الرحم- كان متحدًا به. وهكذا لم يكن هناك أي فاصل بين تكوّن الجسد (حضوره للوجود) وبين اتحاده مع الله الكلمة».[8]
بكون الجسد الذي اتخذه الكلمة من طبيعتنا صار جسده الخاص، يتضح أمامنا البعد الخلاصي لكل أعمال المسيح، فكل أعمال المسيح هي أعمال الكلمة. جسد الكلمة الخاص يعني؛ أنه ليس جسد إنسان آخر ثم حل الكلمة فيه ليعمل أعماله، بل جسد الكلمة الخاص وليس آخر مما جعل كل ما تم في جسده له فعل خلاصي لأجلنا. وبما أن الجسد المحيي بروحٍ بشري عاقل في شخص يسوع المسيح ليس جسد شخص أخر غير شخص الكلمة ابن الله، لذلك فجسده معطي الحياة، ودم يسوع المسيح يطهر من كل خطية، ويوضح القديس كيرلس هذا في كتابه المسيح الواحد: «كيف يعطي جسده الحياة لنا ما لم يكن جسد ذاك الذي هو الحياة؟ كيف أن دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية (1يو1: 7)، إذا كان دم إنسان مثلنا تحت الخطية؟»[9].
خطورة إنكار عقيدة «والدة الإله»
إنكار أن القديسة العذراء مريم؛ والدة الإله، يهدم سر خلاصنا في المسيح، لأنه لو لم تكن العذراء والدة الإله، فالمولود منها شخص بشري، غير شخص الكلمة الإلهي، وبذلك ينحرف الإيمان إلى الإيمان بابنين؛ ابن من الآب وابن من العذراء، وبالتالي فكل ما تم في جسد يسوع المسيح وقع على جسد إنسان مثلنا، كان له مجرد صلة قوية بالكلمة من خلال المصاحبة فقط. كيف جسد إنسان مثلنا يعطي حياة؟ وكيف يغفر دمه الخطايا، إن كان مجرد إنسان؟ وكيف يكون بموته قد داس الموت وقلته إن لم يكن جسده هو جسد الحياة ذاتها؟
فنحن نؤمن برب واحد وليس ربين وابن واحد له ميلادان (طبيعي من الآب وجسدي من العذراء) وليس ابنين، وهذا ذكره القديس كيرلس: «الاتحاد الذي يفوق الفهم والوصف، كوَّن لنا من اللاهوت والناسوت ربًا واحدًا يسوع المسيح وابنًا واحدًا»[10]. (القديس كيرلس الكبير – الرسالة الرابعة: 3 (الثانية إلى نسطور).)
لقب «ابن الله» هو لقب من ألقاب الله الكلمة
يظن البعض أن لقب «ابن الله» الذي ذكره الملاك جبرائيل في بشارته للعذراء «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو1: 35)، أنه أقل من الله. لكن هذا اللقب لم يأخذه المسيح بميلاده من العذراء، ولا عند معموديته، بل هو مرتبط بحضوره الأزلي والدائم في حضن الآب،[11] فهو مولود الآب قبل كل الدهور. لقب «ابن الله» في التقليد اليهودي له نغمة ماسيانية،[12] لكنهم لا يعرفون أي شيء عن طبيعة هذه البنوة.
إن كان الملائكة والبشر اشتركوا في هذا اللقب، وقيل عنهم أنهم «أبناء الله»، لكن القديس يوحنا يؤكد أن بنوة المسيح للآب بنوة فريدة، لأنه المولود الوحيد من ذات جوهر الآب، وهذا واضح في لقب «الابن الوحيد» (يو1: 18)، لأن الابن هو المولود الوحيد للآب. «اَلابْنُ الْوَحِيدُ μονογενὴς Θεὸς الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو1: 18)، والترجمة الدقيقة هي «الإله الابن الوحيد» لندرك أن الابن الوحيد لا يمكن أن يُحسَب بين المخلوقات، فهو من الآب وفي الآب.[13]المسيح هو الابن الوحيد الذي في حضن الآب منذ الأزل، والآن، وإلى الأبد،[14] وهو الذي يعطي المؤمنين أن يصيروا أبناء الله فيه؛ أي يعطيهم شركة في بنوته للآب، لكنه يبقى الابن الوحيد الذي من ذات جوهر الآب. في هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير: «نحن نرتفع إلى كرامة أسمى من طبيعتنا بسبب المسيح، لأننا سنكون أيضًا أبناء الله، ليس مثله تمامًا، بل بالنعمة والتشبه به… هو الابن بالحق وبالطبيعة، ونحن صرنا به أبناء أيضًا، وننال الخيرات بالنعمة، دون أن تكون هذه الخيرات هي من طبيعتنا»[15]
الرب يسوع المسيح في قانون الإيمان نقول عنه: «نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد»، وصفة الوحيد توضح أن ابن الله هو هو الله الابن. «وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ» (يو1: 14)، القديس يوحنا عندما تكلم عن مجد الكلمة المتجسد، ولئلا يفهم أحد أن مجده كمجد الكائنات المخلوقة؛ لأن الملائكة والقوات السماوية لها مجد، وكذلك رجال الله القديسين لهم مجد، لكن مجد الابن يفوق كل مجد للمخلوقات، لذلك وصف القديس يوحنا أن مجد الابن المتجسد مجد متفرد، ومرتفع جدَا عن مجد المخلوقات. فالابن المتجسد له مجد الابن الحقيقي، المساوي لمجد الآب، والمرتفع بما لا يقاس عن مجد الأبناء الذين ناولوا مجدًا بالنعمة والتبني. في ذلك يقول القديس كيرلس: «الابن الحقيقي يفوق الذين هم أبناء بالتبني»[16].
فيما يلي خمسة حرومات من الحرومات الاثنى عشر[17]التي قررها القديس كيرلس الكبير لكل من لا يقبل الإيمان الصحيح بطبيعة شخص المسيح:
-
-
من لا يعترف أن عمانوئيل هو الله بالحقيقة، وبسبب هذا فالعذراء هي والدة الإله. فليكن محرومًا
-
ومن لا يعترف أن الكلمة الذي من الله الآب، قد اتحد بالجسد أقنوميًا، وهو مع جسده الخاص مسيح واحد، وأنه هو نفسه وبوضوح إله وإنسان معًا. فليكن محرومًا
-
من يقسم بعد الاتحاد المسيح الواحد إلى أقنومين ويربط بينهما فقط بنوع من الاتصال حسب الكرامة، أي بواسطة السلطة أو القوة، وليس بالحري بتوحيدهما الذي هو حسب الاتحاد الطبيعي. فليكن محرومًا.
-
…..
-
من يتجاسر ويقول إن المسيح هو إنسان حامل الله وليس بالحري هو الله بالحق، والابن الواحد بالطبيعة، إذ أن الكلمة صار جسدًا، واشترك مثلنا في اللحم والدم، فليكن محرومًا.
-
من يتجاسر ويقول إن الكلمة الذي من الله الآب هو إله وسيد للمسيح، ولم يعترف بالحري بأنه إله وإنسان معًا، حيث أن الكلمة صار جسدًا بحسب الكتب، فليكن محرومًا.
-