حياةٌ مِنَ الموت
إن فصل الإنجيل لقداس عيد القيامة المجيد والذي قُرأ علينا الآن (يو 20: 1-18) يتضمن مفارقة عجيبة؛ ألا وهي أن الكلمة الأكثر تكرارًا في الأعداد هي «القبر»، إذ ترد 9 مرات في 18 عدد. وإذ يبدو للوهلة الأولى وبالمنطق، أنَّ الشهادة لقيامة المسيح سيغلب عليها كلمات من نوعية الحياة أو القيامة. يُفاجئ القارئ أو المستمع للبشارة أن الكلمة الأكثر تكرارًا هي القبر! ربما يفيدنا هذا الأمر لكي نتعلم أنَّ حديثنا عن القيامة يُمكن أن يكون واقعيًّا فقط حينما نتكلم عن الموت!
هناك موت مُفْعَمٌ بالحياة، وهناك حياةٌ مُنَتَّنةٌ بالموت. الموت المُفْعَم بالحياة هو «الموت عن الخطية» (رو 6: 11)، «موت إنساننا العتيق» (رو 6: 6)، «الذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا بالجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24). الموت عن العظمة والمجد الباطل وطلب الشهرة بين الناس ومديحهم الباطل. الموت عن شهوة النجاسة والطمع أي محبة المال. إن رأيت هذه الأمور في قلبك، فاعلم يقينًا أن المسيح الحي يسكن هنا أي في قلبك وقد أفرغه من الموت؛ إذ أنَّ هذه هي الحياة الحقيقية.
إن للحياة رائحة زكية كما أنَّ للموت رائحة نتنة؛ فرائحة الحياة تُشْتَمُّ في الحبِّ الباذل والطهارةِ في القلب والحواس والتواضع في الأفكار والكلمات والسلوك، وعفة اللسان، واليد، والعين. رائحة الحياة تُشْتَمُّ في الصبر على الشدائد، والشكر وقت الضيق، والفرح الداخلي النقي. كل ما سبق يشهد إنك قمت مع المسيح وتركت قبرك فارغًا. رائحة الحياة تُشتَمُّ في الشجاعة في مواجهة الموت.
إن قيامة المسيح ليست لمحو فكر الصليب ومنهجيته من حياتنا، بل على العكس، إنها تحديدًا، ما يلزمنا لنقبل الموت ونحمل الصليب خلف المسيح. صليب الطاعة والخضوع لمشيئة الآب، صليب الحب حتى الموت بالفعل وليس بالكلمات. صليب إنكار الذات وقبول كل ما يأتي علينا بسبب اضطهاد رئيس هذا العالم وضرباته لنا بالأتعاب، والأمراض، والضيقات، والمهانة. صليب النسك في المأكل والمشرب والملبس. وهذا ما حذا بالقديس بولس الرسول أن يقول: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ.» (في 3: 10)
أمَّا الحياة المنتنة بالموت، فهي الحياة لملذات الجسد والتنعم في الأكل والشراب والرفاهية: «وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لو 12: 19). الحياة التي تتسم بالطمع والأنانية ومحبة المال والمجد الباطل. الحياة التي تنقضي في ممارسة الزنا والنجاسة. الحياة الجبانة أمام أخطار الشهادة للمسيح.
إن قوة القيامة تأتينا من الروح القدس؛ روح الذي أقام يسوع من الأموات. هذا الروح عينه يسكن في أجسادنا المائتة ليحيها (رو 8: 11). وتأتينا أيضًا من الصلاة ومن كلمة الله ومن الإفخارستيا، ومن أفعال الإماتة الإرادية. تأتينا من الطاعة لصوت الله الذي يقود حياتنا. تأتينا حينما نُصلَب ونُمَات. إنها لن تنفجر في لحظة، بل ستتكشف تدريجيًّا وستتعرض للتشكيكات مثلما تعرضت قيامة المسيح، ولكنها في النهاية ستثبت وتتأكد لضمائرنا وضمير العالم من حولنا.
ربما يفيدنا ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نتطلع إلى دفاع البابا أثناسيوس الرسولي عن قيامة المسيح، بحسب ما ورد في كتابه «تجسد الكلمة». رَكَّز القديس أثناسيوس على أمرين مرتبطين معًا؛ أنَّ المسيحَ حيٌّ، ولذا فهو يحيي مَنْ يؤمن به، وأعمال الحياة في المؤمنين به تتجلى في فضائلهم وشجاعتهم، بل أقول في موتهم! ولكنه الموت المُفعَم بالحياة.
إن القديس أثناسيوس يتحدث عن تأثير قيامة المسيح في جذب المؤمنين نحو مواجهة الموت أي الموت عن الخطية أو خوف موت الجسد:
لأنه إن كان صحيحًا أن الميت لا يستطيع أن يقوم بأي عمل فإن المخلص كان يتمم كل يوم أعمالاً متعددة، جاذبًا البشر إلى التقوى ومُقنِعًا إياهم بحياة الفضيلة، ومعلمهم إياهم عن الخلود، وباعثًا فيهم حب السماويات، كاشفًا لهم معرفة الآب، ومانحًا لهم القوة لمواجهة الموت، مظهرًا لكل واحد ضلال عبادة الأوثان. فهذه الأعمال لا تستطيع الآلهة والأرواح التي يعبدها غير المؤمنين أن تعملها، بل بالحري تظهر أنها ميتة في حضور المسيح. (فصل 31-فقرة 2).
وَيدلل على ممارستهم للموت عن الخطية في توبتهم عن الزنا والغضب القاتل والطمع الذي يقود إلى الظلم:
لأنه عندما يكون المرء ميتًا لا يستطيع أن يمارس أي عمل، إذ إن قدرته وتأثيره ينتهيان عند القبر. فإن كانت الأعمال والتأثيرات في الآخرين هي من خصائص الأحياء فقط فلينظر كل من أراد وليحكم، وليكن شاهدًا للحق مما يبدو أمام عينيه…. وهل يمكن لشخص ميت أن ينخس ضمائر الآخرين حتى يجعلهم يرفضون نواميس آبائهم الموروثة، ويخضعون لتعاليم المسيح؟ إن كان المسيح …. ميت فكيف استطاع أن يوقف أعمال الأحياء حتى يكف الزاني عن الزنا، والقاتل عن القتل، والظالم عن الظلم، ويصير الكافر تقيًّا؟ (فصل 30 – فقرة 3؛ 5).
ويقنع سامعيه من غير المؤمنين، بقيامة المسيح، بشجاعة الشهداء في مواجهة أخطار وآلام الاضطهاد والاستشهاد:
إن كان كل تلاميذ المسيح يزدرون بالموت وجميعهم يواجهونه بقوة، ولم يعودوا بعد يخشونه، بل بعلامة الصليب وبالإيمان بالمسيح يطأوه كميتٍ، فإن هذا برهان غير قليل، بل بالحري دليل واضح على أن الموت قد أُبيد وأن الصليب قد صار هو الغلبة عليه وأن الموت لم يعد له سلطان بالمرة، بل قد مات حقًا. (فصل 27-فقرة 1).
إذن، سلوك الشهداء دليل على قيامة المسيح وعلى حيازتهم لقوة قيامته:
أما ذلك الشيطان الذي بخبثه فرح قديمًا بموت الإنسان فإنه الآن وقد نُقضِت أوجاع الموت، فالوحيد الذي يبقى ميتًا حقًا هو الشيطان، والبرهان على هذا القول هو أن الناس-قبل أن يؤمنوا بالمسيح- كان يرون الموت مفزعًا ويجبنون أمامه، ولكنهم حينما انتقلوا إلى إيمان المسيح وتعاليمه فإنهم صاروا يحتقرون الموت احتقارًا عظيمًا لدرجة أنهم يندفعون نحوه بحماس ويصبحون شهودًا للقيامة التي انتصر بها المُخَلِّص عليه. إذ بينما لا يزالون صغار السن فإنهم يدرِّبون أنفسهم بجهادات ضد الموت، مسارعين إليه، ليس الرجال فقط، بل والنساء أيضًا. (فصل 27-فقرة 3).
وأجمل ما قيل من القديس أثناسيوس: «وما عرضناه ليس هو مجرد كلام، بل هناك اختبارات فعلية تشهد بإنه حق. فمن يرد دعه يذهب ليرى برهان الفضيلة في عذارى المسيح والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة، ويرى أيضًا في الجوقات الكثيرة من شهداء المسيح، اليقين والثقة في الخلود.» (فصل 48-فقرة1؛ 2).
إذن، فلنجعل من الموت وسيلة للبشارة بقيامة المسيح مثلما كان القبر وسيلة لإعلان قيامته؛ فحينما أرى في نفسي إنني أُقْبِل على الموت بشجاعة، فهذا يعني إنني أؤمن بالقيامة، وأحوز مفعولها فيَّ. حينما أرى نفسي إنني أموت كلَّ يوم عن الخطية التي في العالم، فهذا يعني أنني بقوة القيامة، أصلب الجسد مع أهوائه وشهواته.
القس برسوم مراد، أسيوط
الأحد 5 مايو 2024
كنيسة الشهيد مارجرجس