fbpx
Search
Close this search box.

الروح القدس وعمله فينا في ضوء تعليم القديس كيرلس الكبير المقال الرابع

4 – الروح القدس وعمله فينا

               لعل هذا هو الجزء الأطول والأكبر في هذا المقال، وكتمهيدٍ له، يمكننا أن نقف قليلًا عند أحد التشبيهات الجميلة والفريدة التي استخدمها القديس كيرلس لشرح علاقة أقنوم الروح القدس بأقنوم الآب، وتاليًّا لشرح عمله فينا. هذا التشبيه هو تشبيه الزهرة وأريجها. يقول القديس كيرلس:

فكما أن أريج الزهور ذات الرائحة الحلوة، يصدر بطريقة ما من نشاط أجزاء الزهور الأساسية والطبيعية ووظائفها التي تُصْدِرُ هذا الأريج، وهكذا تنقل الإحساس به إلى العالم الخارجي عندما تستقبله أعضاء حاسة الشم في الجسد، ومع ذلك يبدو كما لو كان منفصلًا عن سببه الطبيعي، بينما لكون هذا الأريج ليس له وجود مستقل، فهو غير منفصل بالطبيعة عن المصدر الذي ينبعث منه، والذي يوجد فيه هذا الأريج؛ فهذا يمكن أن نفهم العلاقة بين الله الآب والروح القدس بواسطة هذا المثال عن الزهور وأريجها.[1]

               معنى كلام القديس كيرلس هنا أن الروح القدس كأقنوم في انبثاقه من أقنوم الآب يشبه صدور العطر من قلب الزهرة. وكما أن العطر يمكننا أن نستنشقه بأنوفنا، فنعرف شيئًا عن هذه الزهرة، فالروح القدس عندما نستقبله في داخلنا يحملنا إلى معرفة بالله الآب. سيتوسع القديس كيرلس لاحقًا، مؤكدًا على الفكرة نفسها بتعبيراتٍ جميلة: «الروح هو كأنه رائحة حلوة لجوهر الله.»[2] وسيضيف عليها إيضاحًا هو عمل الروح فينا، أيضًا قائلًا: «ينقل إلى الإنسان المخلوق فيضًا متدفقًا من الله إذ يعطيه بواسطة ذاته اشتراكًا في الجوهر العالي الذي يهيمن على الكون كله.»[3]

كما سبق أن قلنا إن أريج الحشائش الحلوة الرائحة التي تقتحم أنوفنا، يختلف عن الحشائش نفسها كما ندركها في ذهننا، ولكن الأريج ينبعث من الحشائش التي يصدر منها إذ يستمد خاصية الرائحة منها، وغير منفصل عن الحشائش لأنه وجود الأريج هو بسبب الحشائش وهو متحد بالحشائش. مثل هذه الفكرة أو بالحري فكرة أسمى منها ينبغي أن نتخيلها بخصوص علاقة الآب بالروح القدس، لأن الروح هو كأنه رائحة حلوة لجوهر الله، وهو يؤثر بوضوح على الحواس، وينقل إلى الإنسان المخلوق فيضًا متدفقًا من الله، إذ يعطيه بواسطة ذاته اشتراكًا في الجوهر العالي الذي يهيمن على الكون كله. لأنه إن كان أريج الحشائش العطرة يمنح بعضًا من قوته للملابس التي يتلامس معها، ويحول -بنوع ما- الأشياء المحيطة به لتكون عطرة مثله، فبالتأكيد فإن الروح القدس يملك القوة -حيث إنه الله بالطبيعة، أن يجعل أولئك الذين يحل فيهم، شركاء الطبيعة الإلهية من خلال ذاته.[4]

هنا القديس كيرلس يُسَهِّل لأذهاننا وقلوبنا قبول واقعية وحقيقة قدرة أن يتركَ الروحُ القدسُ فينا أثرًا إلهيًّا واضحًا، وأن يدخل بنا إلى الشركة في الحياة الإلهية، فمن المعيب جدًا أن نقبل هذا عن عطر الزهور ولا نقبله عن روح الله! وبهذا التشبيه الرائع البسيط، يمكن الآن استعراض عمل الروح القدس فينا من واقع كتابات القديس كيرلس.

 

(4 – 1) هو الخيرات والصالحات التي يهبها الله للذين يسألونه

من المهم لفهم هذه النقطة، قراءة كلام الرب يسوع بخصوص السؤال والطلب من بشارتي القديس متى والقديس لوقا:

»اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، يُعْطِيهِ حَجَرًا؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ [ἀγαθὰ][5]لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!» (مت 7: 7 – 11)

«وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟» (لو 11: 9 – 13)

               إن القراءة المتأنية لكلام ربنا يسوع المسيح تقود إلى ما فهمه القديس كيرلس؛ وهو أن الروح القدس نفسه هو الخيرات التي يمنحها الآب بالصلاة والطلبة. وهذا ما فهمته الكنيسة القبطية حينما عَلَّمَت أبناءها أن يطلبوا الروح القدس في صلاة الساعة الثالثة يوميًّا: «أيها الملك السمائي المعزي روح الحق الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات ومعطي الحياة، هلم تفضل وحل فينا وطهرنا من كل دنسٍ وَخَلِّص نفوسنا.»[6] وتحقيقًا لطلب السيد بضرورة السؤال والطلب والقرع للباب، تكرر الكنيسة هذه الطلبة ثلاث مرات أخرى على مدار خدمات نصف الليل الثلاثة! إن الكنيسةَ تَلِّحُ لكي ينال أبناؤها ملء الروح كلَّ يومٍ.

               وَمِنْ كلام السيد، يمكننا أيضًا أن نتوقع أنَّ ابتداء صلاة باكر يوميًّا هو أيضًا يحمل طلبًا لملء الروح القدس: «هلم نسجد هلم نسأل المسيح إلهنا. هلم نسجد هلم نطلب من المسيح ملكنا. هلم نسجد هلم نتضرع إلى المسيح مخلصنا.»[7] وهو المُقتبس من مت 7: 7؛ لو 11: 9، ففي غالب الأمر، تقصد الكنيسة أن تعلم أبناءها أن أول ما يطلبونه في نهار يومهم، هو كنز الروح القدس بالسجود الذي يرافق السؤال والطلب والتضرع!

               وَيُعَلِّل القديس كيرلس أن الصالحات هي عطية الروح القدس، بقوله: «المسيح لم يقبل الروح لأجل نفسه، بل بالحري لأجلنا نحن فيه، لأن كل الصالحات تفيض أيضًا فينا بواسطته.»[8] ويقول أيضًا: «فكما أنه في انحراف الأول [آدم] انتقل خسران الصالحات إلى الطبيعة كلها: هكذا وبنفس المنوال أحسب أن فيه أيضًا ذاك الذي لا يعرف انحرافًا، كي يحفظ لجنسنا كله ربح سكنى المواهب الإلهية.»[9] وَيقول أيضًا: «لأن اكتمال كل الصالحات هو أن يحل الله فينا بواسطة الروح القدس.»[10]

 

(4 – 2) يهبنا شركة الطبيعة الإلهية ويجعلنا مسكنًا للآب والابن

               يقول القديس كيرلس: «وهو[المسيح] يلبس طبيعتنا ويعيد تشكيلها بإدماجها في حياته الخاصة. كما أنه هو نفسه أيضًا فينا، لأننا جميعًا قد صرنا شركاءه، بسبب وجوده فينا بالروح القدس. ولهذا السبب، إذ قد «صرنا شركاء الطبيعة الإلهية» (انظر 2 بط 1: 4)، ودعينا أبناء. وبهذه الطريقة يكون الآب نفسه فينا بالابن.»[11] في هذا الاقتباس المختصر للغاية، يجمع القديس كيرلس عدة مفاعيل للروح فينا معًا؛ الابن فينا ونحن شركاء له بسبب وجوده فينا بالروح القدس، لهذا دعينا أبناء، والآب فينا أيضًا لأنه في الابن، وبهذا فنحن شركاء الطبيعة الإلهية!

               ويقول القديس كيرلس كأنه على لسان المسيح: «وجعلتكم شركاء الطبيعة الإلهية، بأن جعلت روحي يسكن فيكم. لأن المسيح فينا بالروح القدس….»[12] ويُعَلِّق على قول المسيح: «إليه نأتي أنا والآب وعنده نصنع منزلًا.» ويقول: «لأنه حينما يسكن المسيح مخلصنا فينا بالروح القدس، فبالتأكيد سيكون معه أيضًا أبيه؛ لأن روح المسيح هو نفسه روح الآب…. حينما يسكن الابن الوحيد في قلوبكم، فيكون الآب فيكم أيضًا: لأن الآب كائن في الابن إذ أن جوهرهما واحد، والابن هو بالطبيعة في الآب.»[13] التعليم هنا واضحٌ جدًا؛ فالمسيح فينا بالروح القدس، ولأن الروح القدس هو روح المسيح وفي الوقت نفسه روح الآب، لذا فالآب أيضًا يصير فينا، وكذلك لأنه (الآب) كائنٌ في الابن، والابن في الآب. وَيقول أيضًا: «لأن اكتمال كل الصالحات هو أن يحل الله فينا بواسطة الروح القدس[14] ويقول أيضًا: «فالله الآب، له من ذاته وفي ذاته، روحه الخاص؛ أي الروح القدس الذي بواسطته يسكن في القديسين، ويعلن أسراره لهم.»[15] ويقول أيضًا: «وهو [الابن] يتحدث عن الروح الذي هو معه وفيه، والذي بواسطته يسكن شخصيًّا في القديسين. لأن روحه غير منفصل عنه، رغم أنه يمكن أن يُدرَك على أن له أقنوم متميز، لأن الروح أقنوم، غير أقنوم الابن.»[16]

               وفي تعليق جميل للقديس على يو 16: 16 «بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ»، يقول: «ووعدهم أنه سيكون معهم دائمًا إلى انقضاء الدهر كما هو مكتوب (انظر مت 28: 20). فرغم أنه غائب بالجسد، إذ قد مضى إلى الآب وجلس عن يمينه لأجلنا، فهو لا يزال يسكن بواسطة روحه مع أولئك الذين هم جديرين به، وهو على اتصال دائم مع قديسيه؛ لأنه قد وَعَدَ أنه لن يتركنا بدون عزاء.»[17]

               + هذه العطية الإلهية، أن نكون مسكن الله؛ حيث يسكن الآب والابن والروح القدس في كيان المؤمن المسيحي تحتاج إلى اختبار من جانب كل شخصٍ منا، الأمر يبتدأ بسماع الخبر أو الكرازة، ثم القبول، والتصديق ثم الصلاة للاستعلان والاختبار ثم الحياة والسلوك كما يحق للدعوة التي دعينا إليها بكوننا مسكن لله.

 

(4 – 3) هو مصباح النفس الفائق الذي يجعل المسيح مرئيًا للنفس ومنظورًا لها

               في تعليق القديس كيرلس على يو 14: 12: «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي»، يقول: «إذ يقول [ربنا يسوع] «أظهر له ذاتي». لأن سر الألوهية سيُعلَنُ بوضوحٍ لأنقياء القلب ويعطيهم الرب نورًا يضيء لهم الطريق في كل ما هو واجب وذلك بواسطة روحه، ويكشف نفسه لهم، وكأنه يجعل نفسه مرئيًّا بواسطة مصباح النفس الذي يفوق الوصف.»[18]

               القديس كيرلس الكبير يُلَقِّب الروح القدس بــ «مصباح النفس الفائق الوصف» وأولى عظائم الروح مصباح النفس أنه يُري النفسَ المسيحَ الساكن فيها! ويعلن سر ألوهية المسيح في القلب ويضيء للنفس الطريق. هذا اللقب يتناسب تمامًا مع عمل الروح القدس أي الاستنارة التي يهبها للذهن؛ فكما ينير المصباح الطريق والمسكن، هكذا ينير الروحُ الطريق الروحي، والذهنَ والقلبَ. أليس هذا ما يقوله القديس بولس الرسول: «كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ….» (أف 1: 17 – 18).

               وفي تعليق القديس كيرلس على يو 14: 23 «أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا.»، يقول:

أما الذين استنارت أذهانهم بكل فضيلة وقد صاروا في حالة مناسبة لأن يدركوا الأسرار الإلهية الخفية، فإنهم ينالون مصباح الروح وسينظرون بعيون النفس الربَّ نفسَه الذي سكن في داخلهم. لذلك، فإن المعرفة التي يملكها القديسون ليست مشاعة لكل الناس، بل هي معرفة خاصة بهم ومتميزة وواسعة جدًا…. فأول كل شيء، إن كل من يحبه يصير متميزًا جدًا عن الباقين، إذ يتضح كما يبدو لي، أنه لم يعط لكل الناس أن ينالوا قوة نعمة المسيح، بل فقط لأولئك الذي يُرى فيهم مجد الاتحاد به واضحًا بسكناه فيهم عن طريق حفظهم لوصاياه.[19]

               هنا يكرر القديس كيرلس ما قاله، بكون الروح القدس مصباحًا يكشف لعيون الذهن حضور المسيح وسكناه في النفس، وهنا بالتأكيد يشعر الذي يرى بإن ملكوت الله قد حضر (لو 19: 11)، وأن ملكوت الله في داخله (لو 17: 21) وقد أتى ملكوت الله بقوة (مر 9: 1). هنا ملء التعزية. هنا السماء على الأرض. هنا لا شيء يفصل النفس عن محبة المسيح (رو 8: 35). الذي اختبر مثل هذا الكشف، لا يعود شيءٌ ما من مباهج هذا العالم أن تقنعه أو تلهيه أو تكفيه. لا يعود يقنع إلا بوجه المسيح وملء الروح. ولا يفوت القارئ هنا، كيف أن القديس كيرلس كان واقعيًّا حينما أوضح أن مثل هذه المعرفة لا يمتلكها الجميع، بل القديسون مع إنها متاحة للجميع عن طريق حفظ الوصايا. وهنا يكتشف القارئ الواسطة الثانية لاقتناء كنز الروح القدس بعد الصلاة، ألا وهي حفظ الوصايا.

               وفي تعليق القديس كيرلس على يو 16: 23 – 24 «وَفِي ذلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَسْأَلُونَنِي شَيْئًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئًا بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا.» يقول:

يقول الربُّ إن تلاميذه القديسين سوف يزدادون في الحكمة والمعرفة حينما «يلبسون قوة من الأعالي» بحسب الكتاب (انظر لو 24: 49). وإذ تكون أذهانهم قد استنارت بمصباح الروح فإنها عندئذ يمكنها أن تدرك كل حكمة، وحتى دون أن يسألوا ذاك الذي لم يعد حاضرًا معهم بالجسد. والمخلص لا يقول هذا لأنهم لن يكونوا محتاجين إلى إنارة منه، بل لأنهم حينما يكونون قد نالوا روحَه، وصار هو ساكنًا في قلوبهم، فإن أذهانهم لن ينقصها أي شيء صالح، وستمتلئ بأكمل وأعظم معرفة.

               القديس كيرلس يكشف ارتباط واحدة من أهم مفاعيل الروح القدس وهي هبة الحكمة الروحية والمعرفة الحقة، بلقب «المصباح». ويوضح أن المؤمنين سيتمتعون بمعرفة صحيحة كاملة رغم أن المسيح لم يعد حاضرًا بينهم بالجسد، وذلك بسبب سكناه في قلوبهم بالروح القدس. وفي هذا أعظم تعزية لنا نحن الذين لم نَرْ المسيح بالجسد، إنه لن ينقصنا شيء عن الرسل والتلاميذ الذين رأوه بالجسد.

 

(4 – 4) الروح القدس يعلن الأسرار الإلهية الخفية ويهب المعرفة الكاملة

               سبق للقديس كيرلس أن ذكر أن مصباح الروح القدس يعلن للنفس الأسرار الإلهية الخفية. وهذه الفاعلية تتضح أكثر في معرض تعليق القديس كيرلس على يو 16: 12 – 13 «إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ.»، فيقول:

وجد المخلّص أن حزن التلاميذ قد أزداد بمعرفة ما سيحدث في المستقبل، وأنهم غير مستعدين لتحمّل الشرور المقبلة. فهو يقول: «ملأ الحزن قلوبكم» (يو ٦:١٦). لذلك رأى أنه من غير الملائم أن يثبط همتهم بإكمال باقي الحديث، بل أن يخفي ما كان يريد أن يقوله بعد ذلك، بصمت مناسب في حينه وذلك حتى لا يزعجهم. ويحتفظ بما تبقى مما كان ينبغي أن يعرفوه إلى أن يعلنه لهم بواسطة الروح القدس وإلى أن يهبهم النور في الوقت المناسب. وربما لأنه رأى أن التلاميذ كانوا مبطئين في إدراك السر بسبب أنهم لم يكونوا قد استناروا بالروح القدس، ولا صاروا شركاء الطبيعة الإلهية «لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد» كما يقول الإنجيلي ( يو ٧ : ۳۹)، لذلك فهو يتكلم هكذا، راغبا أن يعرفهم أنه سيعلن لهم فيما بعد – أسرارًا أعمق وفائقة على كل عقل بشري، ولكنه يرفض أن يفعل هذا في الوقت الحاضر .

لأنه يقول إنهم ليسوا مستعدين لذلك. لأنه حينما يقول إن روحي القدوس سوف يحولكم ويُغيَّر ذهنكم لتكون لكم الرغبة والقدرة أن تزدروا برموز الناموس، وتفضلوا عليها بالحري جمال العبادة الروحية، وتكرموا الحقيقة أكثر من الظل، عندئذ ستصيرون بكل استعداد قادرين على أن تفهموا الأمور الخاصة بي، لأن هذه الأمور ستتضح تمامًا لكم وستجد مكانًا في قلوبكم، حينما تكونون في حالة ملائمة لنوالها. ويمكن أن نفترض أن ربنا رأى أنه ينبغي أن يكلم تلاميذه بهذه الطريقة، لأن ما قاله مرة مستعملاً أمثلة للإيضاح هو من نفس النوع، ويتناسب مع المعنى الذي أعطيناه لكلماته، فقد قال الرُّب: «ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق وأيضا» ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة (انظر لوقا ٣٦:٥-٣٨) لأن التعليم الجديد لرسالة الإنجيل، لا يدركه الذين لم يتشكلوا بعد بواسطة الروح ليصيروا في جدة الحياة والمعرفة، وهم لا يستطيعون بعد أن يقبلوا أسرار الثالوث القدوس.

إذا، فإن شرح الأسرار العميقة الخاصة بالإيمان هي محفوظة لمن ينالون التجديد الروحي الذي ينبع من الروح القدس حينما لا يعود ذهن أولئك الذين آمنوا بالمسيح يسمح لهم أن يظلوا في الحرف العتيق الخاص بالناموس، بل بالحري يغيرهم لإدراك التعاليم الجديدة، ويغرس فيهم أفكارًا جديدة، مما يجعلهم قادرين أن يروا جمال الحق. ويمكن أن ندرك بسهولة أن التلاميذ، قبل قيامة مخلصنا المسيح من الموت وقبل نوالهم روحه، كانوا – يعيشون بحسب طريقة اليهود، وكانوا لا يزالون مرتبطين بالتدبير الناموسي – رغم أن سر المسيح يفوقه بكثير.

وهكذا نجد أن بطرس المبارك رغم أنه كان بارزًا بين التلاميذ القديسين، حينما كان المخلص يبين لهم ويعرفهم عن آلامه على الصليب ويخبرهم أنه ينبغي أن يتعرض لإهانات اليهود، فإن بطرس انتهره قائلًا: «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا» (انظر مت ٢٢:١٦)، والأنبياء القديسون قد أعلنوا بوضوح ليس فقط أنه سيتألم، بل أيضًا عن طبيعة ومقدار الآلام التي سيتحملها. ونقرأ عن بطرس أيضًا في سفر أعمال الرسل أنه «جاع وأشتهى أن يأكل» وحينما رأى ملاءة مربوطة بأربعة أطراف من السماء وكان فيها من كل مخلوقات الأرض والبحر وطيور السماء وسمع صوتا من السماء يقول: «قم يا بطرس أذبح وكل»، أجاب بطرس «كلا يا رب لأني لم أكل قط شيئا دنسًا أو نجسًا» ولذلك استحق أن ينال توبيخًا بصوت من السماء «ما طهره الله لا تدنسه انت» (انظر أع ١٠:١٠-١٥). وكان ينبغي على بطرس أن يتذكر كلمات مخلصنا لليهود «ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان» (انظر مت 15: 11). فنرى إذًا، كم كان بطرس محتاجًا لإنارة الروح القدس.[20]

               القديس كيرلس أيضًا يوضح أن المعرفة التي يهبها الروح القدس للقديسين هي معرفة كاملة وصحيحة وغير قابلة للخطأ، ولا يمكن اقتناؤها إلا بالروح القدس. ويجعل لها علامة، ألا وهي اعترافها بالثالوث القدوس المتساوي في الجوهر، يقول:

لأننا إن كنا «ننظر الآن في مرآة في لغز، ونعرف بعض المعرفة» (انظر 1كو 13: 9، 12)، فإننا لا نبتعد أو نضل عن تعاليم الحق، بل نلتصق بروح الكتب المقدسة الموحى بها، والمعرفة التي نحصل عليها هي كاملة، وهي معرفة لا يستطيع أحد أن ينالها سوى بنور الروح القدس المُعطَى له…. ونعني بالمعرفة الكاملة، أنها المعرفة الصحيحة وغير القابلة للخطأ، والتي لا تحتمل أن تفكر أو أن تقول أي شيء شرير، والتي لها إيمان مستقيم بالثالوث القدوس المتساوي في الجوهر…. وهكذا نغتني …. بنعمة المعرفة.[21]

               ويقول القديس كيرلس في موضعٍ آخر: «إذ غرسَ [الروح القدس] في القديسين معرفة تامة ومتكاملة.»[22] وفاعلية الروح القدس في إعلان الأسرار الإلهية العميقة وهبته للمؤمنين بالمعرفة الكاملة، يرى القديس كيرلس أنها مرتبطة بأن الروح القدس هو فكر المسيح (1 كو 2: 16)! فهو يفسر قول القديس بولس الرسول «أما نحن فلنا فكر المسيح» بأننا لنا الروح القدس. يقول:

ولذلك حينما اغتنوا بالنعمة التي من فوق من السماء، وتجددت قوتهم، كما يقول الكتاب (انظر إش 40: 31)، ووصلوا إلى معرفة أفضل من السابق، عندئذ نسمعهم يقولون بجرأة: «أما نحن فلنا فكر المسيح» (1كو 2: 16). وهم لا يقصدون «بفكر المسيح» شيئًا سوى مجيء الروح القدس داخل قلوبهم، وهو الذي يكشف لهم كل الأمور التي ينبغي أن يعرفوها ويتعلموها.[23]

               ويقول القديس كيرلس كما لو كان عن لسان المخلص: «حيث إنه روحي، وكأنه هو فكري، فهو بالتأكيد سيتكلم إليكم عن الأمور الخاصة بي…. هذه ستكون علامة لكم أن الروح هو بالحق من جوهري نفسه، وكأنه هو فكري- إذ يخبركم بالأمور الآتية.»[24] ويقول أيضًا: «لأنه يتكلم عن أمور في المسيح في قديسيه بواسطة روحه؛ وهو يكشف أيضًا أسرارًا أخرى إضافية. لذلك فإنه حقيقي أن القديسين إذ يعرفون هذه الأمور جيدًا، يقولون أحيانًا: «أعلنها الله لنا نحن بروحه» (1كو 2: 10)؛ وأيضًا: «أما نحن فلنا فكر المسيح» (1 كو 2: 16)، ويقصد بفكر المسيح روحه.»[25] ويقول أيضًا: «لذلك يقول: «سيعلمكم كل شيء» فحيث إنه روح المسيح «وهو فكر المسيح» كما هو مكتوب (انظر 1كو 2: 16)، وهو ليس شيئًا آخر غير المسيح نفسه، بسبب وحدة الطبيعة، حتى إن كان يُفهَم على أن له أقنومه الخاص، فهو يعرف كل ما فيه (في الابن).»[26]  ويُكرر القديس كيرلس كلامه في كتابه الكنوز في الثالوث، وهو يدافع عن ألوهية الروح القدس، فيقول: «أيضًا يكتب: «لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟» وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ.» (1 كو 2: 16)، قاصدًا أن الروح يسكن فينا. إذن يدعوه الرسول بولس فكر المسيح، كيف يُمكِنُ أن يكون ضمن المخلوقات، ذاك الذي له طبيعة الابن الإلهية وغير الفاسدة؟».[27]

(4 – 5) الروح القدس يجعل المسيح حاضرًا فينا

               لا يختلف هذا العنوان عن ما سبق وذُكِرَ في هذا المقال، ولكن هو مزيد من التأكيد على البركة العظيمة التي صارت لمن يحوز نعمة الروح القدس داخله؛ إذ يقتني المسيح حاضرًا فيه. يقول القديس كيرلس: «روح المسيح الساكن في القديسين، يحقق فيهم حضور المسيح نفسه[28]

               لننتبه لكلام القديس كيرلس، الروح يحقق فينا حضور المسيح نفسه. لسنا محرومين من المسيح؛ ولا يعوزنا رؤيته بالجسد؛ فالروح فينا يحقق حضوره ولهذا فهو معنا كلَّ الأيام إلى انقضاء الدهر. ويمكننا أن نتحدث معه وإليه، ونسمعه، ونأنس به، ونعانقه، ونسجد له. إنه داخلنا، إنه حاضرٌ وليس غائبًا. لذا فملكوت الله داخلنا.

وفي تعليق القديس كيرلس على يو 14: 9 «بَعْدَ قَلِيل لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي.»، يقول:

ولكن كل إنسان يكون لذاته سببًا إما لامتلاك البركة المُعطاة من الله أو للفشل التام في الحصول على هذه البركة. فبعض الناس، لأنهم لا يسعون أبدًا لكي يُطهِّروا ذهنهم بكل أعمال الصلاح، بل يحبون بشدة أن يستمروا في شرور هذا العالم، فإنهم سيظلون غير مشتركين في النعمة الإلهية، ولن يروا المسيح في نفوسهم، لأن قلبهم خالي من الروح. لهذا السبب، رغم أنهم محسوبون تحت رعاية حامي الأيتام، إلا أنهم يتمزقون إلى أشلاء بـأي شيء مهما كان ضعيفًا في قوته قد يؤثر فيهم سواء كان شهوة أو شيطانًا، أو حتى أي شهوة عالمية أخرى، أو بواسطة أي شيء يمكن أن يجتذبهم، ويتسلط عليهم ليسقطوا في الخطية. أما بالنسبة للقديسين والذين قصدوا أن ينالوا الروح فإنه قال، كما ينبغي أن يُقال عن أولئك الذين ليس فيهم شيء من هذه العيوب التي ذكرناها، «لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم» (يو 14: 18). وهكذا فهو يقول إنه سيصير غير منظور بالمرة من أولئك الذين ينشغلون بأمور العالم، بعد رحيله من العالم، أعني بعد صعوده إلى السماء، ولكنه يقول إنه سيكون منظورًا بالنسبة للقديسين لأن الروح القدس سيضع شعاعًا روحيًّا في عيون قلبهم، ويزرع فيهم كل معرفة صالحة.[29]

               إذًا يمكننا أن نفهم أن مجيء المسيح إلينا هو من خلال اقتنائنا لكنز الروح القدس. وليس الجميع يتمتعون بهذه النعمة العظمى؛ لأن البعض يلتصقون بشرور العالم فيصيرون مقفرين من الروح القدس، وبالتالي لا يكون المسيح منظورًا لهم. بينما القديسون الذين قصدوا أن يمتلئوا بالروح، سيكون المسيح منظورًا لهم، لأن الروح القدس سيضع شعاعًا روحيًّا في أعينهم الداخلية. يا لفرح النفس التي تمتلئ بالروح، سيكون المسيح منظورًا لها! فلنطلب إذًا أن نمتلئ بالروح ولنجاهد كي ننفك من كل شرور العالم، فنحظى برؤية السيد حبيب نفوسنا.

(4 – 6) الروح القدس يجمعنا ويشكلنا إلى الرسم الإلهي

               من أهم مفاعيل الروح القدس التي تكلم عنها كثيرًا القديس كيرلس، هي دور الروح القدس في تشكيلنا الروحي. مصطلح التشكيل الروحي يبدو حديثًا، ومحور حديث الكنائس والطوائف المسيحية في عصرنا الحالي، ولكنه في الحقيقة مصطلحٌ ينتمي لرسائل القديس بولس وآباء الكنيسة الأولى، ويمكننا تعريف التشكيل الروحي بأنه عملية كبرى يقودها الروح القدس ويتعاون معه المؤمنون بإرادتهم الحرة (سنرجيا)، ومسرح هذه العملية هو قلب وذهن الإنسان، ومدتها هي حياتنا، ومقصدها هو نكون ما يشتهي الله أن نكونه؛ إنسانًا إلهيًّا جديدًا مخلوقًا بحسب الله في البر وقداسة الحق؛ مسيحًا كالمسيح يسوع في سماته الروحانية؛ في محبته واتضاعه ورحمته وجسارته وقداسته وبره وطاعته وقوته وسلطانه ومجده. وغاية هذا التشكيل هو أن نتشبه بالله على قدر احتمال الطبيعة الإنسانية.[30] يقول القديس كيرلس: «ولا يوجد لدينا أدنى شك في أن الروح القدس هو الذي يختم صورة المخلّص على قلوب الذين يقبلون المخلّص. وهذا واضح تمامًا من تحذير بولس للذين سقطوا في التمسك بالناموس عندما قال: «يا أولادي الصغار أنتم الذين أتمخض بهم ثانية إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل 4: 10)، وهو يقول إن المسيح لن يتكَّون فيهم إلاّ بالاشتراك في الروح القدس وبالحياة حسب شريعة الإنجيل.»[31]

ويقول أيضًا:

«ختمتم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا» (أف١: ١٣ و١٤).

إن كنا حينما نُختم بالروح القدس، نتغير إلى شكل الله، فكيف يكون مخلوقا ذاك الذي بواسطته تتشكل فينا صورة الجوهر الإلهي، وتنطبع فينا سمات الطبيعة غير المخلوقة؟  الروح القدس بالتأكيد لا يُصوّر الجوهر الإلهي [المقصود لا يرسم فينا الصورة الإلهية] فينا مثل رسام، فيكون هو مختلفًا عما يرسمه، ليس بهذه الطريقة يقتادنا إلى مشابهة الله، ولكن باعتباره إلها ومنبثقا من الله هو يطبع نفسه [ينطبع]- بطريقة غير منظورة – في قلوب الذين يقبلونه، كما يطبع الختم نفسه في شمع. فهو بواسطة الشركة معه والمشابهة به، يُعيد رسم طبيعتنا بحسب الجمال المثالي الأصلي ويجعل الإنسان مرة أخرى على صورة الله. فكيف، إذن، يكون مخلوقا، ذاك الذي بواسطته يُعاد تشكيل طبيعتنا بشكل الله، حتى تصير شريكة الله؟[32] (كتاب الكنز في الثالوث ٣٤)

وَالروح القدس يشكلنا على صورة الابن ويجعلنا محبوبين لدى الآب، يقول القديس كيرلس الكبير:

إن الكلمة الذي من الله الآب يُرقينا إلى حد أن يجعلنا شركاء طبيعته الإلهية بواسطة الروح (القدس). وبذلك صار له الآن إخوة مشابهون له وحاملون صورة طبيعته الإلهية من جهة التقديس لأن المسيح يتصوّر فينا هكذا: بأن يغيّرنا الروح القدس تغييرا جذريًّا من صفاتنا البشرية إلى صفاته هو.

وفي ذلك يقول لنا بولس الطوباوي «وأما أنتم فلستم في الجسد، بل في الروح» (رو ۸: ۹)، فمع أن الابن لا يحوّل أحدًا قط من المخلوقين إلى طبيعة لاهوته الخاص – لأن هذا مستحيل – إلا أن سماته الروحية ترتسم بنوع ما في الذين صاروا شركاء طبيعته الإلهية بقبول الروح القدس، وبهاء لاهوته غير المفحوص يضيء مثل البرق في نفوس القديسين.[33] (ضد نسطور ۳: ۲)

وفي الأمر نفسه، يقول القديس كيرلس الكبير:

لقد دينت الخطية إذ قد صارت مائتة في المسيح ذاته أولًا، وستصير مائتة فينا نحن أيضًا، متى قبلنا حلول المسيح داخل نفوسنا بالإيمان وبشركة الروح القدس الذي يجعلنا مشابهين للمسيح (رو ۸: ۲۹)، بتقديسنا بواسطة الفضيلة، لأن روح المسيح مخلصنا هو بمثابة صورته الخاصة،  وهو يطبع فينا الصورة الإلهية بطريقة ما بواسطة نفسه غير أن الروح القدس يجب أن يُعتبر بحق هو الروح وليس هو الابن، بل بالحري هو روح الابن، إذ هو يعجن ويعيد تشكيل على صورة الابن أولئك الذين يحل فيهم بالمشاركة، حتى إذا ما رأى الله الآب فينا ملامح ابنه الخاص اللائقة به، يحبنا نحن أيضًا كأولاد له، ويُشرق علينا بالكرامات الفائقة لهذا العالم ![34] (العظة الفصحية 10: 2)

               وفي تفسيره لإنجيل يوحنا إصحاح 17 والآيتين 20 – 21، يقول: «لا يستطيع أحد أن يصل إلى الإتحاد بالله إلا بشركة الروح القدس، الذي يَبُثُّ فينا قداسته الخاصة، ويعيد تشكيل طبيعتنا التي فسدت إلى شكل حياته الخاصة، وهكذا يُرجِع إلى الله وإلى التشبه به أولئك الذين «أعوزهم ذلك المجد» (انظر رو 3: 23)»[35] ويقول أيضًا: «فإن الروح حينما يعيد تشكيل بنوعٍ ما نفوس الناس إلى شكله الخاص فهو يطبع عليها الشكل الإلهي ويختمها بصورة الجوهر الفائق الكل!»[36].

               وفي معرض حديث القديس كيرلس الكبير عن يو 3: 5 «أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ.»، يقول: «به [الروح القدس] وفيه [الروح القدس] يُعاد تشكيلنا إلى جمال النموذج الأصلي، وهكذا نولد ثانيةً إلى جدة الحياة، وتُعاد صياغتنا إلى البنوة الإلهية.»[37]

ويقول أيضًا:

لأنه يمكن أن نتبين بسهولة، من كتب العهدين القديم والجديد، أن الروح القدس يُغَيِّر ميول أولئك الذين يكون فيهم، ويسكن داخلهم، ويعيد تشكيلهم إلى جدة الحياة. لأن صموئيل النبي حينما كان يتحدث مع شاول، قال: «فيحل عليك روح الرب، وتتحول إلى رجل آخر» (1صم 10: 6). والرسول المغبوط بولس يكتب قائلًا: «ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح.» (2كو 3: 17 – 18). ها هو يقول إن الرب هو الروح والروح يعيد تشكيل أولئك الذين يسكن فيهم -كما لو كان- إلى شكل آخر. فهو يحولهم بسهولة من الميل إلى الانشغال بالأمور الأرضية، إلى التأمل فقط في السماويات، ومن الجبن غير الرجولي إلى الشجاعة وعدم الخوف. وهكذا نجد أن التلاميذ الذين امتلئوا بالروح القدس، قد تحولوا بكل قوة. لذلك فإن المخلص صادق حينما يقول: «خير لكم أن أنطلق إلى السماء». لأن هذا كان الوقت المناسب لنزول الروح.[38]

 

(4 – 7) الروح القدس يختنُ الختانَ غير المصنوع بيد

               في شرح القديس كيرلس للآية يو 15: 2 «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ.» يوضح فاعلية الروح القدس في القديسين بلغة جديدة عما سبق، فيقول: «وينبغي أن نبين أيضًا، أن ختاننا هو بالروح، وهو يحقق فينا التطهير الذي نحتاجه، وهو التطهير الذي يتممه الابن بالروح….إذًا، فالآب يتمم تطهيرنا بالابن، بواسطة الختان الذي نعرف أنه يجري من خلال الروح.»[39] وكما أن الآية يو 15: 2 تميز بين نوعين من البشر، ونوعين من التعامل الإلهي، هكذا يسير شرح القديس كيرلس؛ فالآية تميز بين الأشرار الذين طمروا الوزنة ولم يتاجروا أو بلغة مثل الكرمة والأغصان؛ لم يثمروا بعصارة الكرمة [الروح القدس] التي يتحدوا بها، هؤلاء يقطعهم الكرام فيفقدوا العصارة الحية التي تأتيهم من الكرمة؛ أي سينزع الرب منهم الروح القدس قبل أن يُعاقبوا العقاب الأبدي، كما تُنزَع النياشين من أصحاب الكرامات السابقة ولكن بسبب خيانتهم صدرت بشأنهم أحكام وعقوبات:

لأن ما قاله المسيح عن الإنسان الذي دفن وزنته، هذا يمكننا أن نراه متحققًا في حالة أولئك الذين قُطِعوا قطعًا كاملًا. فكما أُخِذت منه الوزنة فورًا، هكذا أعتقد أيضًا أن الروح يُنزعُ من الغصن، وهذا ما يُرمَز إليه بالعصارة التي تعطي حياة للكرمة. ولماذا يُنزَعُ الروحُ؟ لكي لا يبدو الروحُ كأنه يشترك في الدينونة [قبول حكم الدينونة] مع الذين يُحكَمُ عليهم أن يمضوا إلى هلاك النار تنفيذًا لحكم الديان. لأنه إن كان الملوك أو الحكام الأرضيين لا يقررون فجأة مصير أولئك الذين كانوا في وقتٍ ما يتمتعون بمركز الشرف والكرامة، والذين كانوا مكرمين بإنعامات ملكية، بل إن وُجِدَ أحدُ هؤلاء متهمًا بجريمةٍ ما تستحق عقابًا عادلًا، فلا يمكن أن يلحق به هذا المصير قبل أن تُنزَع عنه علامات كرامته وشرفه؛ ألا يكون ضروريًّا إذًا أن النفس التي يُحكَمُ عليها بقرارٍ من فوق بنوال العقاب أن تُنزَع عنها نعمةُ الروح القدس وتهجرها قبل أن تجتاز هذه المصيبة؟ ونقول أيضًا إن الغصن العقيم سوف يعاني مثل هذا المصير.[40]

               إذًا هذا هو النوع الأول من البشر ومصيره بحسب نَصِّ يو 15: 2 وبحسب شرح القديس كيرلس للآية. أما إذا أتينا للنوع الثاني، ويُطلِق عليهم القديس كيرلس «المقيمون في الله»[41] وهم الذين يأتون بثمر، بحسب الآية، فالرب لكي يزداد ثمرهُم، فهو ينقيهم بختان الروح القدس – كسكين- يقطع منهم اللذات التي تحاول أن تجتذبهم إلى الشهوات اللحمية والأهواء الجسدية. يقول القديس كيرلس:

وإذ يريد الرب أن يُثَبِّت قلوبنا، لكي نكون جاهزين للثبات في المحبة له، بقوة نشاط الفضيلة في داخلنا، وبالإيمان غير المتزعزع، فهو يقول إن الغصن المثمر لن يُترَك أبدًا بدون اختبار عناية الكرام، بل سَيُنَقَّى تنقية شاملة لكي تكون له قدرة أكثر لإعطاء ثمر. لأن الله يعمل مع الذين اختاروا أن يحيوا أفضل وأكمل حياة، وأن يعملوا أعمالًا صالحة بأقصى قدرة لديهم، وقد اختاروا السعي إلى الكمال كمواطنين لله [كمقيمين في الله]. فهو يستخدم قوة الروح الفاعلة كسكين للتنقية، وأحيانًا يختن اللذَّات التي فيهم التي تحاول أن تجتذبنا دائمًا إلى الشهوات اللحمية، والأهواء الجسدية، وأحيانًا كل تلك الإغراءات التي تهاجم نفوس البشر، لكي تدنس عقولهم بأنواع مختلفة من الشرور فهذا هو ما نقول عنه إنه الختان غير المصنوع بيد، بل هو ختان الروح القدس.[42]

القديس كيرلس الكبير لا يغفل عن حقيقة أن التنقية مؤلمة للقديسين، ولكن يصف هذا الألم بـ «البسيط»[43]، وضيق التطهير يبقى لفترة بسيطة.[44] يقول:

إن كانت أغصان الكرمة في المثل تعاني أي تنقية، فإني أفترض أن ذلك لا يمكن أن يحدث بدون ألم. لأن التنقية مؤلمة لدرجة أن الخشب يمكن أن يعاني الألم. بنفس الطريقة إذًا، ينبغي أن نعتقد أن التنقية تؤلم القديسين…. لأن إلهنا، الذي يحب الفضيلة، يعلمنا ويربينا بواسطة الألم والضيق. كما أن إشعياء النبي يقول ما يلي: «عندما يغسل الرب قذر أبناء وبنات صهيون، ويطهر دم أورشليم في وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق» (إش 4: 4 سبعينية). والرسول الملهم بولس يقول أيضًا «إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين، فأي ابن لا يؤدبه أبوه!» (عب 12: 7). بل وأكثر من ذلك، فإن خورس القديسين أنفسهم الذي يفوق الفهم، لا يرفض التأديب الذي يقدمه القدوس، بل بالحري يرحبون به بهذه الكلمات «أدبني يا رب ولكن بالحق، لا بغضبك لئلا تفنيني» (إر 10: 24). لأن الأغصان غير المثمرة يتم قطعها كليةً بالغضب لأنه يرسلهم إلى العقاب، أما الأغصان التي تأتي بثمر فيتم تنقيتها بالقضاء- أي بالتقدير وبالرحمة- وهو ما يسبب ألمًا بسيطًا، لأجل إحياء خصوبتها، لتعطي ثمرًا كثيرًا. والبعض يقبلون هذا (الألم) صارخين: «يا رب، بضيقٍ يسير أنت تؤدبنا» (إش 26: 16 س)، لأن ضيق التطهير يبقى لفترة قصيرة.[45]

(4 – 8) الروح القدس يهبنا الحرية

               إن الحرية هي أحد ملامح الصورة الإلهية التي وهبها الرب للإنسان عند خلقته، وذلك بالروح القدس، كما تكلم وشرح كثيرًا القديس كيرلس، أن الروح هو الذي جعلَ الإنسان على الصورة الإلهية، وبالتالي فبسقوط الإنسان من النعمة وفقدانه للروح، فقدَ حريته في جوهره الإنساني -وإن ظلَّ ظاهريًّا حرًّا- فأصبح عبدًا للخوف والخطية، وَأصبحَ غريبًا عن عائلة الله؛ لم يعد الله يتمشى معه في الفردوس كحبيب وصديق.

               وَلمَّا أراد الآب السماوي أن يُحرّر الإنسان من العبودية، ويمتعه مرة أخرى بالحرية، أرسل ابنه في الجسد، حتى يَهَبَ الكلمةُ حريته للطبيعة البشرية المتحدة به، وَمن ثمَّ ينقلها الروح إلينا حينما يسكن فينا، فنضحى جنسًا حرًّا. وَمِنْ هنا ندرك أن حريتنا هي من الآب بالابن في الروح القدس. لذا يقول الرب في حديثه لليهود: «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا.» (يو 8: 36)، والروح القدس هو روح التبني أي روح الحرية -في مقابل روح العبودية- كما يقول بولس الرسول: «إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ.» (رو 8: 15 – 16) فالروح القدس يجعلنا شركاء في بنوة المسيح للآب بسبب قرابته الجسدية لنا، فلا يعود يسمينا عبيدًا، بل أحباء (يو 15: 15)، وباستبعاد العبودية من حياتنا، يُستَبعَدُ تاليًّا الخوفُ؛ لأن الخوفَ مرتبطٌ بالعبودية.

               بولس الرسول أيضًا، يؤكد أنه حيث روح الرب فهناك الحرية: «وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.» (2 كو 3: 17). والقديس كيرلس الكبير استعان بهذه الآية في دفاعه عن لاهوت الروح القدس وفي شرحه لفعله داخلنا؛ فلأن الروح هو الرب فهو حرٌّ؛ لأن الطبيعة الإلهية وحدها هي الحُرَّة بالمعنى الكامل والمطلق، لأنها لا تنتمي إلى المخلوقات، ولأن الروح فينا فهو يهبنا أن نشترك في حريته ونصير أحرارًا، فكأن نسائم الحرية تُشَمُّ، فقط حينما يَهُبُّ الروحُ! يقول القديس كيرلس في حواره السابع حول الثالوث مع الشخصية الاعتبارية (إرميا):

على العكس يا إرميا، فإن العبودية كاسم وواقع يمكن وبكل سهولة أن تكون من خصائص الطبيعة المخلوقة والمصنوعة، وعلى كل الحالات تكون أبعد ما يمكن عن الله ذاته…. وبالتالي من يُحَرِّر العبد من عبوديته ويستطيع أن يجعله يتحلى بامتيازات الحرية…. هذا تكون طبيعته طبيعة فائقة وحُرَّة…. ليهتف عاليًّا الطوباوي بولس قائلًا: «وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.» (2كو 3: 17 – 18). ويُعَبِّر عن ذات الحقيقة بطريقة أخرى، فيقول «إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ» (رو 8: 15) لأن مجد البنوة يتضمن -على أي حال- الحرية أيضًا. إذن لهذا دعا ربنا يسوع تلاميذه القديسين أنهم أحباء وأحرار وذلك عندما أراد أن يكرِّمهم بمسئوليات تفوق الطبيعة، لأنهم كانوا مزمعين أن يقبلوا الروح القدس الحُرَّ…. وطالما أن الربَّ هو روح وحيث روح الرب ينبغي أن نطلب الحرية، إذن هذه الحرية قد نبتت -على كل حال- من الطبيعة الحرة أيضًا.[46]

صلاة

إلهي، أرسل فيضَ الروح في داخلنا. لِتَهُبَ ريحك (روحك) فتسيل المياه (المطر السماوي أي الروح القدس)، حتى نتنسم نسائم الحرية. تئن نفوسنا من نير العبودية القاسية؛ نحن عبيد لشهواتنا؛ محبة المال ومحبة الرئاسة والتسلط على الآخرين، والطمع، والنجاسة، وروح الزنا، والغضب، والبخل، والأنانية. نحن عبيد مخاوفنا، نحن عبيد أحزاننا. بهتت فينا ملامح الأبناء. رجاؤنا في ملء روحك وزيارة النعمة، فتزهى فينا ملامح البنين، وأولها حريتهم! ننفض عنا العتيق العبد مع أعماله، ونستكمل لِبْسَ الجديد الحُرِّ وأعماله. سأبحث عن حريتي حيث يكون روح الرب، سأبحث عنها في كلمة التعليم الحقيقي في الكنيسة، حيث يتكلم روح الله على لسان المعلمين، سأبحث عنها في حياة القديسين، لأنهم لابسي الروح، سأبحث عنها في كلمة الله في الكتاب المقدس؛ لأن القديسين تكلموا بوحي مسوقين من الروح القدس (2بط 1: 21). سأبحث عنها في أسرار الكنيسة، حيث يقيم الروح ويعمل. سأبحث عنها في الصلاة الحية والعبادة التي بالروح والحق، لأنها واسطة نوال ملء الروح. سأبحث عنها في محبة إخوتي، لأنهم هياكل الله وأنت تسكن فيهم.

(4 – 9) الروح القدس يشفي النفس ويقدسها وينقل فاعليته إلى ماء المعمودية

               في حوار الرب يسوع مع نيقوديموس، يؤكد الرب على الميلاد الفوقاني من الماء والروح، ويحاول القديس كيرلس أن يُفَسِّر أهمية وجود الماء وما يحدث له بسبب اتحاده بالروح القدس:

«إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». فلأن الإنسان مُركّب وليس بسيطًا في طبيعته، إذ يتألف من عنصرين، هما الجسد المحسوس والنفس العاقلة، فإنه يتطلّب شفاءًا ذا شقين لأجل ميلاده الجديد، مماثلًا لعنصريه السابق ذِكرهما. لأن بالروح القدس تتقدس روح الإنسان، وبالماء المقدس، يتقدس جسده أيضًا. لأنه كما أن الماء المنسكب من الغلاية، بسبب اتحاده بقوة النار، ينطبع فيه ختم فعاليتها، هكذا بواسطة عمل الروح القدس، تتحول طبيعة الماء المحسوس إلى ماء إلهي ذي فاعلية لا توصف فيقدس أولئك الذين يأتون إليه.[47]

               إذًا، لم يعد الماء ساذجًا (عاديًّا)، بل انتقل إليه مفاعيل الروح القدس أو لِنَقُل؛ أن الروح القدس أشرك الماء في مفاعيله السرية، فصارت المعمودية تقديسًا للنفس غير المنظورة والجسد المنظور.

القس برسوم مراد

أسيوط، 10 يونيو 2023م

 

 
 
[1]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 332.
[2]  المرجع السابق، 335.
[3]  المرجع السابق.
[4]  المرجع السابق، 335.
[5] Original Word: ἀγαθός, ή, όν. See: https://biblehub.com/greek/18.htm
[6] الطلبات – صلاة الساعة الثالثة وخدمات صلاة نصف الليل الثلاث.
[7] مقدمة صلاة باكر.
[8]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج1، 530.
[9] المرجع السابق، 531.
[10] كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 233.
[11]  المرجع السابق، 216.
[12]  المرجع السابق، 217.
[13]  المرجع السابق، 222 – 23.
[14] المرجع السابق، 233.
[15]  المرجع السابق، 334.
[16] المرجع السابق، 336.
[17]  المرجع السابق،
[18]  المرجع السابق، 219.
[19]  المرجع السابق، 222.
[20]  المرجع السابق، 327 – 29.
[21]  المرجع السابق، 340 – 41.
[22]  المرجع السابق، 331.
[23] المرجع السابق، 329.
[24]  المرجع السابق، 330.
[25]  المرجع السابق، 220.
[26]  المرجع السابق، 229.
[27] كيرلس الكبير، الكنوز في الثالوث، 552.
[28]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 230.
[29]  المرجع السابق، 205 -06.
[30]  باسيليوس الكبير، الروح القدس (مصر: الكلية الإكليريكية بمطرانية الغربية، 1981)، 55.
[31]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 507.
[32]  هيئة التحرير بمجلة مرقس، مختارات من أقوال آباء الكنيسة (القاهرة: دار مجلة مرقس، 2022)، 320.
[33]  المرجع السابق، 322.
[34]  المرجع السابق، 330.
[35]  المرجع السابق، 336.
[36]  المرجع السابق.
[37] كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج1، 188.
[38]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 323 – 24.
[39]  المرجع السابق، 269.
[40] كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج2، 265 – 66.
[41]  المرجع السابق، 266 (حاشية).
[42]  المرجع السابق، 266.
[43]  المرجع السابق، 267.
[44]  المرجع السابق.
[45] المرجع السابق، 266 – 67.
[46] كيرلس الكبير، حوار حول الثالوث، 364 – 65.
[47]  كيرلس الكبير، شرح إنجيل يوحنا: ج1، 189.

شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

أعياد
Rakoty CYCS

حياةٌ مِنَ الموت

حياةٌ مِنَ الموت إن فصل الإنجيل لقداس عيد القيامة المجيد والذي قُرأ علينا الآن (يو 20: 1-18) يتضمن مفارقة عجيبة؛ ألا وهي أن الكلمة الأكثر

روحية
Rakoty CYCS

لماذا هذا الموقف من آلام المسيح؟

آلام المسيح تغربلنا «وَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ

روحية
Rakoty CYCS

إشعياء 58 – بركات قبول الصَّوم

رابعًا: بركات قبول الصَّوم «8 حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ [شَملك].9 حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ.

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة