موسيقى الفرح

«مِن قبل صليبه دخل الفرح إلى العالم كله» مديح القيامة

وصف أحدهم إحدى السيدات المثقفات والعابسات في الوقت نفسه: «هي تعرف كل الكلمات … لكنها لا تعرف شيئًا عن الموسيقى». كثيرون من المسيحيين يعرفون أن يفرحوا أفراح هذا العالم الوقتية والمرتبطة بالظروف، والملوثة أحيانًا بأصناف خطايا كثيرة، ولكن قليلين منهم يعرفون «موسيقى» الفرح الذي في المسيح. أي الفرح بالرَّبِّ نفسه وبأعماله الخلاصية من أجلنا، وبالطبع بموته على الصليب عنَّا ولأجلنا، كما نصلي في مديح القيامة: «من قِبَل صليبه دخل الفرح إلى العالم». ربما يعرفون كل كلمات وعقائد قانون الإيمان، ولكن لا يعرفون شيئًا عن موسيقى الفرح في المسيح.  حكى الأب أنتوني كونيارس الموقف التالي، والذي للأسف يُعَبِّر عن كثيرين منا:

بدأت فتاة العمل حديثًا في مكتب، غير أنها كانت على الدوام مكتئبة، مقطبة الجبين وصامتة. لاحظ مديرها في العمل أنها تلبس صليبًا فضيًّا حول رقبتها. فقال لها: «أليس من المفترض أن يجعلك هذا الصليب أن تبتسمين؟ أليس من المفترض أن يزيل هذا الصليب كل التجهمات والعبوس؟» نظرت الفتاة إليه بذهول، وأجابته: «أنت على حق..أنا لم أفكر في ذلك الأمر من قبل»، ثم توهجت ابتسامة مفاجئة على شفتيها.[1]

يبدو الأمر مختلفًا تمامًا مع القديسين؛ فها هو القديس البابا أثناسيوس الرسولي يتحدث عن كثرة وعظمة أعمال المسيح الخلاصية، وصعوبة الإحاطة بها:

وباختصار فإن الأعمال التي حققها المُخَلِّص بتأنسه عظيمة جدًا في نوعها وكثيرة في عددها، حتى إذا أراد أحد أن يحصيها فإنه يصير مثل الذين يتفرسون في عرض البحر ويريدون أن يحصوا أمواجه. لأنه كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحصي كل الأمواج بعينيه، لأن الأمواج تتابع بطريقة تبلبل ذهن كل من يحاول ذلك، هكذا من يحاول أن يحصي كل أعمال المسيح في الجسد، فمن المستحيل أن يدركها كلها إذ أن الأعمال العظيمة التي تفوق ذهنه هي أكثر من تلك التي يظن أنه قد أدركها.[2]

وربما هذا ما يفسر لماذا عَبَّرَ القديس بولس الرسول عن هذا الخلاص بقوله: «….خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ» (عب 2: 3).

وإذا أراد القارئ أن يحيط بشيء من معنى الخلاص في المسيح يسوع، فليستمع لما يقوله المطران كاليستوس وير:

 في البداية، إذا نظرنا إلى العهد الجديد، فلن نجده يُقدِّم طريقة واحدة فقط لفهم العمل الخلاصي للمسيح، أو حتى نظرية منهجيِّة واحدة. ولكننا سنجد مجموعة متكاملة من الصور والرموز موضوعة جنبًا إلى جنب. وتلك الصور لها معانٍ عميقة وقوية. وفي أغلب الأحيان لم تُشرح تلك الصور، ولكنها تُركت لتتحدث عن نفسها. فإذا أردنا أن نفهم عمل المسيح، فمن الأفضل أن نتبع ما قدَّمه به العهد الجديد، إذ يكوِّن في ذهننا العديد من هذه الصور المختلفة. ولكن يجب علينا ألا نعزل أي صورة منها عن الأخرى، بل أن نضعهم جنبًا إلى جنب، ويكون شعارنا هو «الأمان في تعدد الصور».[3]

ويمكن للقارئ أن يستدعي من ذهنه الروحي ومن حصيلة قراءته في الكتاب المقدس ومن الصلوات الليتورجية، العديد من هذه الصور والنماذج:

  • المسيح الذبيحة
  • الموت النيابي للمسيح عن البشر (البدلية)
  • المسيح الفدية والمسيح المحرر
  • المسيح رئيس الكهنة الأعظم
  • المسيح الغالب
  • المبادلة الخلاصية – الخلاص خدمة شفاء
  • المسيح آدم الثاني
  • المسيح المُصالِح
  • المسيح بموته يحررنا من الخطية والناموس، وبقيامته يهبنا الحياة الجديدة.

 ويقول نيافة أنبا رافائيل أسقف كنائس وسط القاهرة:

لذلك، فإنه من الخطأ الجسيم، أن يُنظَر إلى عمل المسيح الخلاصي، في اتجاه واحد، ورؤية واحدة منعزلة عن الخبرة الكنسية الجماعية، والرؤى التفسيرية الممتدة للآباء الأولين. فهناك أوجه متعددة قد كُشفت لنا عبر هؤلاء. فليس الطريق للاقتراب من هذا السر ومحاولة فهمه، أحاديًّا، بل هو طريق متعدد المداخل، أو بالأحرى طرق متنوعة نستطيع من خلالها معًا أن نقترب بخشوع من فهم وإدراك سر المسيح.[4]

سبق أن عرضنا للقارئ شرحًا للنموذج السابع «المسيح آدم الثاني» في مقال «إلهي ما أجمله! خلاصه ما أعظمه!» والآن نعرض للقارئ نموذجًا آخر هو «الموت المُحَرِّر والقيامة المُحيية»، وهذا النموذج الهام نجده بالأساس في رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل رومية في الإصحاحات من 6 – 8 كما أيضًا في: كو 2: 20؛ 3: 3 – 5؛ غل 5: 24. في هذا النموذج لشرح عمل المسيح الخلاصي، يتضمن العديد من الأخبار السارة في مقابل العديد من صرخات الإنسان قبل المسيح أو بدون المسيح:

  • «6 عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ» (رو 6: 6).
  • «فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ» (رو 6: 14).
  • «أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ» (رو 6: 18، 22).
  • «6 وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ، حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ الرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ الْحَرْفِ» (رو 7: 6).
  • «24 وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟ 25 أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا!» (رو 7: 24 – 25). أنا الإنسان الذي تَحَطَّم أو أفرغ كل جهده![5]
  • «1 إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. 2 لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ» (رو 8: 1 – 2).

 القديس بولس الرسول يبني أخباره السارة وشرحه على عدة أسس:

أنه لا سيادة للناموس على الشخص الميت «أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ – لأَنِّي أُكَلِّمُ الْعَارِفِينَ بِالنَّامُوسِ – أَنَّ النَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى الإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيًّا؟» (رو 7: 1)، وكذلك الخطية «لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ.» (رو 6: 7)؛ إذ لا يستطيع الميت أن يخطئ؛ وَمِنْ ثَمَّ لا لزوم للناموس لهذا الميت، لأن الناموس وُضِعَ ليتعامل مع الذين يخطئون.

أنَّ لكلٍ منَّا «إنسان عتيق» (رو 6: 6)، أو «جسد خطية» (رو 6: 6) قد أخذناه من آدم القديم بحسب قول القديس كيرلس الكبير[6]، وهو يعني كل أمر خبيث وشرير بحسب تعبير القديس يوحنا ذهبي الفم[7]،  والذي يدعو الإنسان العتيق أيضًا بكافة الرذائل.[8] هو إذن، طبيعتنا الساقطة الفاسدة التي تميل إلى الدنس والأهواء الرديئة والمتحصنة داخل جسدنا الترابي.

يقول القديس كيرلس الكبير عن الإنسان العتيق أو جسد الخطية:

 عند الحديث عن جسد الخطية وعن إنساننا العتيق، يُقصَد بذلك الجسد الترابي، الذي إذ قد أُخِذَ من آدم القديم. سوف يؤول إلى فسادٍ، وقد تمت دينونتنا في آدم، إضافةً إلى أنَّه قد أُصيب بمرض اللذة الشهوانية: تلك إذن هي طبيعة الجسد البشري، فهو مدفوع بالغرائز الفِطريَّة. فما هو المقصود إذن بأنَّ هذا الجسد صُلِبَ فيما بعد مع المسيح؟[9]

أن الله الآب أرسل ابنه في «شبه جسد الخطية» (رو 8: 3) ليموت جسد الخطية هذا ويموت إنساننا العتيق بموت المسيح على الصليب (رو 6: 6) وهذا يتحقق لنا نحن عندما نتحد «بشبه موت الربِّ» (رو 6: 5) في المعمودية، وبالتالي نتحرر من الارتباط بالناموس لنرتبط بالمسيح. ونتحرر من الخطية ونتبرأ منها، هذه التي كنَّا نعيش فيها ونخدمها بأعضائنا، لنحيا ونخدم المسيح.

ويشرح القديس كيرلس الكبير كيف صُلب إنساننا العتيق مع المسيح:

 لقد صار الوحيد الجنس إنسانًا وارتدى الجسد البشري المريض بالموتِ، لأنه، كما سَبَقَ وذكرتُ، جسدٌ مأخوذٌ من آدم، وهو بحسب طبيعته دائم الميل نحو الخطية مدفوعًا بالغرائز الفطرية. ولكن ناموس الخطية خَمَدَ في جسد المسيح المقدَّس والفائق الطهر: فبالطبع، لا يستطيع أحد أن يقول إن أي أهواء فوضوية بشرية قد تحركت فيه، باستثناء الأهواء البريئة مثل الجوع والعطش والتعب، وكل ما هو بحسب قانون الطبيعة موجودٌ فينا نحن أيضًا ولا يتسبب في الشعور بالذنب. بالرغم مِنْ أنَّ ناموس الخطية لَمْ [يُسمَح له بأن] يأخذ قوامه في المسيح، وذلك لأنه خَمَدَ بسبب قوة وأمر اللوغوس، فلو اخْتُبِرَت طبيعة هذا الجسد البشري في حدِّ ذاتها ومِنْ أجل ذاتها، أي جسد المسيح البشري، فلن نجده مختلفًا عن جسدنا. فعندما صُلِبَ جسدُه البشري، والذي بطريقة ما، كان يحوي فيه كل الطبيعة [البشرية]، فقد صُلبنا معه: فمثلما امْتصَّت الطبيعة كلُّها سُمَّ اللعنة في آدم عندما صار ملعونًا، هكذا نستطيع أن نقول إننا قمنا مع المسيح، وجلسنا معه في السماء.[10]

وهنا نحتاج أن نفهم لماذا أُطلق على جسد الربِّ «شبه جسد الخطية»؟ ولماذا أطُلق على موتنا «شبه موت الربِّ»؟

 جاءت في الترجمة العربية المشتركة والترجمة اليسوعية «جسد يشبه جسدنا الخاطئ» وجاء في حاشية الترجمة اليسوعية هذا التعليق: «اتخذ المسيح على وجهٍ تام مصير وضعنا الخاطئ، من غير أن يكون هو خاطئًا (2كو 5: 21)»[11]. ومن المهم جدًا أن نستمع إلى القديس كيرلس الكبير في شرحه لهذا المصطلح:

…. فقد صار الكلمةُ إنسانًا، وأحنى ذاتَه حتى الإخلاء؛ فكيف نشك في أنَّ جسده مساوٍ لجسدنا ومِنْ نفس طبيعته؟ ما خلا أنَّ أجساد كل البشر يُمكن أن يُطلق عليها «جسد الخطية»، لأن المرض يكمن في الجسد بسبب طبيعته: حيث تتأصل الشهوات المفرطة؛ بينما لا نستطيع أن نقول عن جسد المسيح إنه جسد الخطية، حاشا! ولكن إنَّ له «شكل جسد الخطية»، أي أنَّ جسده مماثل لأجسادنا، ولكن ليس إلى حد معرفة مرض نجاسة الجسد: فهذا الهيكل الإلهي مقدسٌ منذ أنْ كان في الرَحِم. أمَّا فيما يخص القدرات الذهنية الطبيعية، فلا يجب أن يتردد أحد في إدراك أنَّ [الكلمة]، ولأنه صار جسدًا، فقد حوى في ذاته الغريزة الطبيعية والفطرية؛ فهو الذي يقدس كل الخليقة، لذلك، فبعد أن سَكَنَ في الجسد، أُدينت قوة الخطية، حتى أنَّ هذا النفع عاد علينا نحن أيضًا، وذلك لأننا جزءٌ منه روحيًّا وجسديًّا على حدٍ سواء. ففي كل مرةٍ يسكنُ المسيحُ فينا بواسطة الروح القدس وسِرِّ البركة، فإن ناموس الخطية يُدان فينا نحن أيضًا.[12]

والمعنى نفسه تقريبًا يرد في عظات القديس يوحنا ذهبي الفم على رسالة رومية:

ولكن عندما يقول إنه أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، فلا تعتقد أنه يحمل جسدًا آخر، ذلك لأنه قال جسد الخطية، لهذا ذكر كلمة شبه. لأن المسيح لم يكن يحمل جسدًا خاطئًا، لكن شبه جسد الخطية، شبيه بجسدنا، ولكن بلا خطية، وله نفس طبيعة جسدنا. ومن هنا يبدو واضحًا أن طبيعة الجسد ليست شريرة.[13] لأن المسيح لم يأخذ جسدًا آخر بلا خطية، ولا غَيَّر جوهر الجسد، وذلك لكي يهيئه للحرب ضد الخطية. بل على النقيض أبقاه في طبيعته وجعله يربح إكليل النصرة ضد الخطية، وبعد ذلك أقامه منتصرًا وجعله خالدًا.[14]

وسار الأب متى المسكين في تفسيره على الدرب نفسه:

في شبه جسد الخطية، يعني أن ابن الله حمل طبيعة الإنسان في واقع حالها بعد السقوط، ولكن دون أن يكون فيها أي فعل من أفعال السقوط، أي الخطية. وبذلك يكون قد تجاوز كل أثر الخطية في جسد الإنسان، فحمل جسدًا بلا خطية حتى يستطيع أن يحمل كل الخطايا عليه، دون أن يكون هو خاطئًا ويموت بها؛ فيميتها أي يدينها، دون أن يُعتبر الموت عقوبة له أخذه في جسده كعقوبة لكل خطايا الإنسان، وقام فأكمل العقوبة لكل إنسان. وهكذا دان الخطية بالجسد، فأكمل الدينونة لكل ذي جسد!! فصار لا دينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع.[15]

ورد هذا التعبير في الفقرة التالية: «3 أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، 4 فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ 5 لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ.» (رو 6: 3 – 5).

إن تعبير «شبه موت الرب» يعني لدى القديس كيرلس الكبير موت يشبه موته[16]. وهو يرى أن ذلك يتم حينما نعتمد بعدما نُوَجِّه للمسيح تَعَهُّدًا بضميرٍ صالح، وبعدما نُصَدِّق بالإيمان «أنه مات من أجلنا ودُفن وقام، وأننا نلنا غفران الخطايا بواسطة المعمودية المقدسة بقبولنا الموت عن الخطية التي فينا، وأننا كنا مع مَنْ مات مِنْ أجلنا، متحدين معه بشبه موته عن طريق إماتة الجسد الأرضي».[17] ويقصد القديس كيرلس بالجسد الأرضي أي الذي يهتم بالأرضيات أي الأهواء الشريرة في الجسد، وليس مادة الجسد نفسها، لأنها ليست شرًا في حد ذاتها.[18]

القديس يوحنا ذهبي الفم حينما يشرح الأعداد السابقة، نجده يتحدث عن موتنا بالمعمودية عن الخطية وهكذا فهذا الموت ليس هو موت الرب تمامًا، بل يشبهه؛ لأن موت الرب كان للجسد على الصليب، بينما موتنا نحن بالدفن بالماء بالمعمودية:

إذن فإننا دُفِنا معه في المعمودية. ماذا تعني عبارة «اعتمدنا لموته؟» تعني أننا نحن أيضًا نموت كما مات هو، لأن الصليب هو المعمودية. فهذا الذي جازه المسيح، أي الصليب والقبر، يتحقق في المعمودية التي نُتممها، وإن لم يكن بنفس الطريقة. لأن المسيح مات بالجسد ودُفن، بينما نحن نجوز نفس الأمر بالنسبة للخطية. ولهذا لم يقل إننا ذقنا نفس الموت، بل قال «بشبه موته». لأن الموت يتم في المعمودية وفي الصليب، ولكن ليس بنفس الطريقة، كما أنه من نوعين مختلفين. موت المسيح كان موتًا للجسد، لكن موتنا هو موت عن الخطية. وكما أن موت المسيح كان موتًا حقيقيًّا بالجسد، هكذا تمامًا فإن موتنا في المعمودية هو موت حقيقي عن الخطية. لكن على الرغم من أنه موتًا حقيقيًّا، إلا أنه ينبغي علينا أيضًا أن نسلك بما يتفق والحياة الجديدة. ولهذا أضاف: «فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟» (رو 6: 4). لاحظ أنه يشير هنا إلى موضوع القيامة بجانب الحديث عن الاهتمام بالسلوك اليومي في حياتنا. كيف؟ أتؤمن أن المسيح مات وقام؟ فإن كنت تؤمن بهذا، فيجب أن تؤمن بموتك أنت وبقيامتك أيضًا. فموتك يشبه موت المسيح، لأن موتك (في المعمودية) هو أيضًا صليب ودفن. إذًا فلو كنت قد اجتزت الموت والدفن، فبالأولى جدًا ستجوز القيامة والحياة. لأنه طالما أن الأمر الأكبر قد اضمحل أي الخطية، فيجب ألا تشك بعد في الأمر الأصغر أي الموت قد بَطَلَ.[19]

وتأكيدًا للمعنى نفسه، يقول أيضًا:

لكنه قال بشبه موته، لأننا حين نموت معه في المعمودية، فإن الذي يموت هو الإنسان الخاطئ، أي الشر، ولم يقل «لإنه وإن كنا قد صرنا مشتركين معه بشبه موته» لكنه قال «متحدين معه بشبه موته» قاصدًا بهذه الكلمة تلك النبتة التي أثمرت، والتي أخذناها من المسيح. فكما أن جسده بعدما دُفن في الأرض أتى بثمار الخلاص للبشرية، هكذا فإن جسدنا بعدما دُفن في المعمودية، نال ثمر البر والقداسة والتبني وخيرات أخرى لا تحصى، وسينال العطية الأخيرة وهي القيامة. لأننا نحن دُفنا في الماء، بينما هو دُفن في الأرض، ونحن قد متنا من جهة الخطية، أما هو فقد مات بالجسد، ولهذا لم يقل: «متحدين معه في موته»، لكن «بشبه موته» لأن هناك موتان، موت المسيح وموتنا، ولكنهما موتان مختلفان.[20]

النتائج العملية المترتبة على عمل المسيح هذا وقبولنا له

  1. نتحرر من ميل الطبيعة البشرية تجاه الخطية

«1 إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ، بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. 2 لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ. 3 لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ، فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ، دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ، 4 لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ، بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ» (رو 8: 1 – 4).

ويقول القديس كيرلس الكبير:

فحتى إذا كان عمانوئيل يفوقنا ويعلو علينا، بكونه هو الله، ولكنه نزل بيننا كواحدٍ منا، وقام وجلس مع الله الآب. إذن، فالإنسان العتيق قد صُلب: بمعنى أنَّ قوة اللعنة القديمة قد حُلَّت بواسطة القيامة، وهُدِمَ جسدُ الخطية، ولا نقصد هنا الجسد البشري عمومًا، ولكن الشهوات الفطرية الشرسة التي تُحَرِّك الذهن كلَّ حينٍ فتغرِقه في الفساد، وتَقْذِف به نحو بدد الأهواء الأرضية المماثلة للطين والوحل. ميل الطبيعة البشرية المنحرف هذا، بعد أن تصحح في المسيح، لا يمكن أن يكون موضعًا للشك فيما بعد. لأن القديس بولس يقول بوضوح: “لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه، فيما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد”. انظر إذن، كيف هُدِم جسدُ الخطية؟ لقد دين المُحَفِّز للخطية في الجسد البشري، وقد وُضِعَ حتى الموت لأول مرةٍ في المسيح، بينما انتقلت إلينا النعمة منه [المسيح] وبواسطته.[21]

  • يحدث تغيير حقيقي ملموس في طبيعتنا وسلوكنا

يذكره القديس بولس الرسول في أكثر من موضع: «11 كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً للهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. 12 إِذًا لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ، 13 وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرّ للهِ. 14 فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ…. 18 وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ. 19 أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيًّا مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ جَسَدِكُمْ. لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ، هكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ.» (رو 6: 11 – 14، 18 – 19)

هذا التغيير المذهل في حياة الإنسان الذي يُقبل إلى المسيح، نراه بكل وضوح في تلك المرأة التي كانت خاطئة، وما عملته مع المُخَلِّص في بيت سمعان الفريسي (اُنظر لو 7: 36 – 50)؛ هذه المرأة تُعتَبر عن حق، مُعَلِّمة الحب الكثير والإيمان بالمسيح. يلاحظ القارئ أن كل أعضاء هذه المرأة والتي طالما خدمت بها الخطية قديمًا، تحولت لخدمة البر ولخدمة المسيح وإكرامه. قلبها ومشاعرها وجسدها، تَحَوَّلَ الكلُّ إلى إكرام السيد؛ مشاعر الحب وأفعاله! الطيب الخالص الغالي الثمن، والقبلات وشعر المرأة الذي هو تاجها، ها هو يمسح قدمي المسيح. عبَّرت هذه القديسة التائبة أثارت بحبها الكثير حفيظة سمعان الفقير في الحب، فالذي يحب قليلًا يغار ولا يتحمل أن يرى أصحاب الحب الكبير.

ذات يوم كان القديس أوغسطينوس سائرًا عبر الطريق، وفجأة أسرعت نحوه واحدة من النساء وبدأت تصيح خلفه قائلة: «أوغسطينوس، أوغسطينوس! أنا هي، أنا هي!». اِلتفت أوغسطينوس وراءه فرأى واحدة من اللاتي كنَّ يخطئن معه قبل توبته. إنها الآن تريد أن تُعيد العلاقة معه. أجابها القديس بهدوء: «لكنني لست أنا؛ لست أنا أوغسطينوس، بل المسيح الذي يحيا في أوغسطينوس».[22]

القس برسوم مراد

مدرسة راكوتي

الجمعة العظيمة، 18 أبريل 2025م


شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

أعياد
marina hosny

سّر الموت والقيامة

مقدمة لم يكن الموت ضمن الخطة الإلهية في خلقة الإنسان، لكنه دَخل إلى العالم بحسد إبليس، والإرادة الإلهية حوّلت الموت من عقوبة إلى نعمة: «حولت

روحية
marina hosny

إلهي ما أجملَه! خلاصه ما أعظمَه!

يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي عن صعوبة الإحاطة بكل أعمال المسيح بالجسد من أجلنا: وباختصار فإن الأعمال التي حققها المُخَلِّص بتأنسه عظيمة جدًا في نوعها

روحية
Rakoty CYCS

الصليب عتق من الخطية وعبودية للبر

مقدمة                لم يكن عمل الصليب فقط أن يحرّرنا من الخطيئة التي تُنتِج الموت، بل أيضًا بعد أن يحرّرنا، يربطنا ببرّ المسيح. فالحرية المسيحية، والتي

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة