سّر الموت والقيامة

لم يكن الموت ضمن الخطة الإلهية في خلقة الإنسان، لكنه دَخل إلى العالم بحسد إبليس، والإرادة الإلهية حوّلت الموت من عقوبة إلى نعمة: «حولت لي العقوبة خلاصًا». ما الفرق بين قيامة المسيح، وقيامة البشر الذي قاموا وعادوا للحياة الأرضية مرة أخرى؛ ابنة يايرس وابن أرملة نايين ولعازر وطابيثا وأفتيخوس؟ هؤلاء جميعًا عادوا إلى الحياة الأرضية، لكنهم ماتوا ثانيةً. أما المسيح فد مات مرة واحدة، ليس عن ضعف، لكن بقوة الحب الباذل ليفتدينا من موتنا، ولن يموت بعد: «لأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ (المسيح) قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا للهِ.» (رو 6: 10). ولأن موتنا موتًا مضاعفًا فقيامتنا أيضًا مضاعفة. فالقيامة الأولى هي يوم مُتنا معه في المعمودية لتُدفن خطايانا، والثانية هي قيامة الجسد في مجيء الرب الثاني.[1] لكن ما بين قيامتنا الأولى وقيامتنا الثانية، نجتاز طوال رحلة حياتنا الأرضية مجموعة من الميتات والقيامات الصغيرة.

نختبر في حياتنا اليومية الموت بأشكال مختلفة من الموت، ولكن كل موت يتبعه قيامة، وبذلك تسير حياتنا الأرضية كرحلة عبور «فصح» دائم من الموت إلى الحياة، موت يتبعه ولادة جديدة. الموت، رغم أنه لم يكن في خطة الله، إلا إن إرادة الله جعلت للموت طابعًا خلاقًا، بدلًا من الطابع الهدَّام الذي قصده العدو؛ الشيطان.  

أمثلة:

+ في كل يوم حينما نخلد إلى النوم، نحن نختبر ونتذوق بشكل مسبق الموت، وعندما نقوم من النوم، نتذوق أيضًا بشكل مسبق القيامة «قام من النوم». صلوات الكنيسة تربط صلاة النوم بالموت، وصلاة باكر بالقيامة. وكما أن لنا ثقة في أنه بعد النوم سنستيقظ لنستقبل يومًا جديدًا، فبنفس الثقة عند الموت الجسدي، سنقوم إلى حياة جديدة. ففي كل صباح، كأننا خُلِقنا من جديد، وبالمثل عند قيامتنا وكأننا نُخلق من جديد. كما نستقبل النوم بسهولة لأنه يعقبه استيقاظ، علينا أيضًا أن نستقبل الموت بنفس الشكل لأن المسيح قام.[2]

يربط القديس يعقوب السروجي غلبه المسيح للموت، بقوة شمشون وتغلُبهُ على القيود بسهولة، فيقول:

ربطوا شمشون في نومه وغفي ليستهزئوا به، ولما استيقظ قطع ربطه وحطمها، لما كان نائمًا كان مربوطًا، فظنوا أن قوته قد تلاشت ولما نهض صنع نصرًا دمرهم، النذير حرق غلاتها بالثعالب لأنها ربطته، وربنا استأصل الشيول بقوته لأنها سجنته، شمشون سخر من أبواب المدينة التي أُغلِقت في وجهه وضحك على الحراس والاقفال التي لم تغلق عليه، الجبار صوّر سر ربنا بالأبواب التي استأصلها لأنه كسر أمخال الشيول وخرج من الظلمة.[3]

ونحن نصلي في قداس عيد القيامة الترتيلة المشهورة: «… قد قام الرب مثل النائم»

+ مراحل النمو في رحلة حياتنا هي رحلة موت وقيامة. فلكي ننمو وننتقل من مرحلة إلى أخرى، لابد أن يموت فينا شيء ويقوم شيء جديد، يموت ما هو للطفل ليقوم ما هو للبالغين. كما تشمل مراحل النمو الإنفصال عن الأماكن والأشخاص، فهي بمثابة موت عن مكان أو علاقة لتقوم علاقة بمكان أخر وأشخاص آخرين، وهذه هى رحلة النضج.[4]

التعرّض للرفض؛ من وظيفة أو رفض الحب، نختبر فيه الموت، لكنه يتبعه قيامة بقبول وظيفة أخرى لنا، أو قبول شخص آخر لحبنا.[5]

+ موت الإيمان بالشك؛ قد يتعرض يومًا إيماننا للانهيار، ويضرب الشك بجذوره في أعماقنا، لكن مِن هذا الشك الذي هو بمثابة موت الإيمان يولد إيمان أقوى. فلكي ينمو إيماننا، يتعرض لموت مستمر ليقوم أقوى وأجد.

المسيحي يلصق اختباره لميتاته وقياماته الصغيرة خلال رحلة الحياة بموت وقيامة المسيح، فترتفع وتأخذ قوتها من قوة موت المسيح وقيامته.[6]

+ موت الخطيئة؛ فكل مرة نعود فيها إلى طريق الخطيئة، كأننا نرجع إلى الموت، لكن التوبة بمثابة قيامة من الموت نعود بها مرة أخرى إلى الحياة. «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا» (أف 2: 1).

كذلك وصف القديس يعقوب السروجي قوة المسيح على موت، بمثال حزقيال النبي الذي حمل إثم شعبه. فحزقيال، لكي يحمل إثم نصف الشعب، نام على جنبه ثلاثمائة وتسعين يومًا، فكم لو كان قد حمل خطايا جميع البشر؟ يقول السروجي:

حمل النبي اثم نصف الشعب وطرحه على جنب واحد مدة ثلاثماية وتسعين يومًا، ولو حمل كل إثم جميع الشعوب: بعد كم سنة كان سيقوم في حال قيامه؟ جبروت يسوع قدر أن يأخذ إثم كل العالم ليموت مدة ثلاثة أيام فقط[7]

ما هو الموت الذي يُنهي حياتنا على الأرض؟ ألا يمكن أن ننظر إليه على أنه نوع من الميتات الصغيرة التي اجتزناها خلال رحلة حياتنا، وكأنه هو الحلقة الأخيرة من سلسلة الميتات؟ وكما تبع كل موت قيامة، فهذا الموت أيضًا سيتبعه قيامة.  

الموت الجسدي هو انفصال الروح عن الجسد، والقيامة هي عودة الروح لتتحد بالجسد مرة أخرى ليحيا الإنسان إلى الأبد في وحدة كيانه المكون من جسد ورح. لكن ما هو الجسد الذي سنقوم به؟ هل هو نفس جسدنا الذي عشنا به على الأرض، أم هو جسد آخر؟ أصح إجابة؛ أنه سيكون نفس الجسد ومع ذلك هو ليس نفس الجسد.

لكي نوضح الإجابة، لابد أن نتأمل قيامة المسيح، لأن قيامتنا ستكون على مثال قيامته، لأن المسيح هو الباكورة ونحن الحصاد. فقد قام المسيح بنفس الجسد، لأن القبر كان فارغًا، وعند ظهوره للرسل أراهم آثار الجروح، فهو الجسد الذي كان على الصليب. ورغم إنه نفس الجسد، إلا أن جسد القيامة يختلف في أنه استطاع أن يدخل العلية والأبواب مغلقة. وهو جسد له هيئة أخرى؛ لم يتعرف عليه تلميذا عمواس ولا التلاميذ على بحيرة طبرية. كما أنه كان يظهر فجأة بحضور جسدي واضح ثم يسحب حضوره المنظور فجأة.

جسد القيامة لن يتوقف عن أن يكون جسدًا حقيقيًا ماديًا، «ليس للروح لحم ولا عظام»، لكنه في نفس الوقت متحرر من قيود المادة التي تحكم العالم الساقط.[8] فهو جسد روحاني؛ وليس معنى روحاني أنه مجرد روح، بل جسد تمجّد بالروح القدس الذي نقل مجد جسد المسيح القائم إلى أجسادنا. «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ.» (رو8: 11). فأجسادتنا ستستمر معنا في الأبدية بعد القيامة، لكنه أيضًا ستتغير لتكون على صورة جسد مجده.

في الحقيقة، أن أجسادنا في حالة تغيير مستمرة في رحلة عمرنا الأرضي؛ فالعناصر التي يتكون منها جسدنا تتغير بصورة دائمة، ومع ذلك يظل جسدنا هو هو. يفسر القديس غريغوريوس النيسي ذلك بإن الجسد منطبع على هيئة النفس، هذه الهيئة أو الصورة هي التي تجعل هذا الجسد هو جسدنا، حتى لو تغيرت عناصره أو شكله الخارجي. فاجسادنا تستمر هي هي لأن هيئة النفس منطبعة عليها، حتى لو تغيرت مادتها في القيامة. يقول القديس غريغوريوس النيسي:

إن جزءً من وجودنا، هو جزء ثابت (الروح)، وجزء يمضي نحو التحلل. حقًا، فإن الجسد من ناحية يتغير فينمو وينقص، فيبدل ثوب أعماره المتتالية، مثل تغيير الملابس، بينما صورة كياننا من ناحية أخرى تظل كما هي في ذاتها، دون أي تحول خلال كل هذه التغيرات… إن التشوه الذي يحدث بسبب المرض يطال الصورة (شكل الجسد)، كما لو أنه قناعا غريب. وعندما يشفى المريض ويزال القناع… كما حدث مع نعمام السرياني… أيضًا الصورة التي حجبها المرض تعود للظهور من جديد متمتعة بالصحة مع كل السمات الخاصة به[9] 

 سي. إس. لويس يصف استمرارية الهيئة رغم تغير العناصر بهيئة الشلال؛ فقطرات المياه في الشلال ليست هي هي في كل لحظة، بل رغم تغيرها إلا أن الشلال محتفظ بنفس هيئته. فرغم أن الجسد الذي سنقوم به قد يتكون من عناصر مادية مختلفة، إلا أنه سيكون نفس الجسد الذي امتلكه الشخص في الحياة الأرضية، لأن له نفس هيئة النفس.

لكن مهما قلنا عن جسد القيامة، فنحن لا ندرك كل الأمور بالتدقيق لأننا «نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ»[10] و «وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ»[11] لأننا مازلنا نقيس بمعايير العالم الساقط، لكن ما سيُعلن لنا في العالم المفدي حيث لا وجود للخطية والموت يفوق قدرتنا على الإدراك والتخّيل.

سُئل الموسيقي «رالف وليامز» ماذا تعني الحياة الآتية بالنسبة لك؟ قال «موسيقى»، لكن لن أعزف أنا هذه الموسيقى، بل سأكون أنا الموسيقى. فإذا سألنا مسيحيًا ماذا تعني الحياة الآتية بالنسبة لك؟ سيجيب «محبة، فرح، سلام»، لكن لا أكون من يحب أو يفرح أو أشعر بالسلام، بل سأكون أنا حبًا، سأكون فرحًا، سأكون سلامًا. حيث يكون الحب دائمًا، والفرح دائمًا، والسلام دائمًا. سنكون نحن الحب والفرح والسلام.[12]  

القس فيكتور جرجس

مدرسة راكوتي

الأحد ٢٠ أبريل ٢٠٢٥ م


شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

روحية
marina hosny

موسيقى الفرح

«مِن قبل صليبه دخل الفرح إلى العالم كله» مديح القيامة مقدمة وصف أحدهم إحدى السيدات المثقفات والعابسات في الوقت نفسه: «هي تعرف كل الكلمات …

روحية
marina hosny

إلهي ما أجملَه! خلاصه ما أعظمَه!

يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي عن صعوبة الإحاطة بكل أعمال المسيح بالجسد من أجلنا: وباختصار فإن الأعمال التي حققها المُخَلِّص بتأنسه عظيمة جدًا في نوعها

روحية
Rakoty CYCS

الصليب عتق من الخطية وعبودية للبر

مقدمة                لم يكن عمل الصليب فقط أن يحرّرنا من الخطيئة التي تُنتِج الموت، بل أيضًا بعد أن يحرّرنا، يربطنا ببرّ المسيح. فالحرية المسيحية، والتي

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة