fbpx
Search
Close this search box.

الفعل الغريب

“لِذلِكَ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ يَا رِجَالَ الْهُزْءِ، وُلاَةَ هذَا الشَّعْبِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. 15 لأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: «قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ، وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ. السَّوْطُ [السيلُ] الْجَارِفُ إِذَا عَبَرَ لاَ يَأْتِينَا، لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا، وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا». 16 لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: «هأَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرًا، حَجَرَ امْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيمًا، أَسَاسًا مُؤَسَّسًا: مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ [الذي يؤمن به لن يُخزى-السبعينية].  17 وَأَجْعَلُ الْحَقَّ خَيْطًا وَالْعَدْلَ مِطْمَارًا، فَيَخْطَفُ الْبَرَدُ مَلْجَأَ الْكَذِبِ، وَيَجْرُفُ الْمَاءُ السِّتَارَةَ. 18 وَيُمْحَى عَهْدُكُمْ مَعَ الْمَوْتِ، وَلاَ يَثْبُتُ مِيثَاقُكُمْ مَعَ الْهَاوِيَةِ. السَّوْطُ الْجَارِفُ إِذَا عَبَرَ تَكُونُونَ لَهُ لِلدَّوْسِ. 19 كُلَّمَا عَبَرَ يَأْخُذُكُمْ، فَإِنَّهُ كُلَّ صَبَاحٍ يَعْبُرُ، فِي النَّهَارِ وَفِي اللَّيْلِ، وَيَكُونُ فَهْمُ الْخَبَرِ فَقَطِ انْزِعَاجًا». 20 لأَنَّ الْفِرَاشَ قَدْ قَصَرَ عَنِ التَّمَدُّدِ، وَالْغِطَاءَ ضَاقَ عَنِ الالْتِحَافِ. 21 لأَنَّهُ كَمَا فِي جَبَلِ فَرَاصِيمَ يَقُومُ الرَّبُّ، وَكَمَا فِي الْوَطَاءِ عِنْدَ جِبْعُونَ يَسْخَطُ لِيَفْعَلَ فَعْلَهُ، فَعْلَهُ الْغَرِيبَ، وَلِيَعْمَلَ عَمَلَهُ، عَمَلَهُ الْغَرِيبَ.” (إش 28: 14 – 21).

السياق التاريخي للنص موضوع التأمل

يتحدث الرب بلسان إشعياء النبي قبل سبي أورشليم بتحذيرٍ شديد اللهجة لولاة أورشليم الخطاة المتكبرين والمعاندين والذين تحدوا الرب وظنوا بل وجاهروا بإن الرب لا يستطيع أن يعمل لهم شيئًا؛ إذ قالوا -بكبرياء- إنهم عقدوا عهدًا مع الموت والهاوية: «لِذلِكَ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ يَا رِجَالَ الْهُزْءِ، وُلاَةَ هذَا الشَّعْبِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. 15 لأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: «قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ، وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ. السَّوْطُ [السيلُ] الْجَارِفُ إِذَا عَبَرَ لاَ يَأْتِينَا، لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا، وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا» (إش 28: 14 – 15).  إنه (الرب) يمنحهم الأمل الأخير في النجاة؛ ألا وهو الماسيا الصخرة الموعود به، وَالذي هو حجر الامتحان حجر الزاوية المختار الكريم، وَالأساس المؤسس والذي يؤمن به لن يُخزى. ربما تاريخيًّا في وقت إشعياء كان المعنى القريب المقصود هو يهوه نفسه هو حجر الزاوية (راجع يهوه صخر الدهور وصخر إسرائيل إش 26: 4؛ 30: 29)[1] أي إن الرب يدعو الراغبين في النجاة أن يتحصنوا به فقط من وجه أشور وليس بمصر، فهو القادر أن يُخَلِّص، ولكن الكلام له بُعدٌ ماسياني، كما يتضح من كثير من نصوص العهد القديم التي تتحدث عن الماسيا بإنه حجر (راجع مز 118: 22؛ إش 8: 14 – 15؛ دا 2: 34؛ زك 3: 8 – 9)[2]  وقد التقطه -بسهولة- كلٌ من القديس بطرس الرسول (1 بط 2: 4)، وَالقديس بولس الرسول (رو 9: 32 – 33؛ أف 2: 20)

لكن ما قصة الآية 21 « لأَنَّهُ كَمَا فِي جَبَلِ فَرَاصِيمَ يَقُومُ الرَّبُّ، وَكَمَا فِي الْوَطَاءِ عِنْدَ جِبْعُونَ يَسْخَطُ لِيَفْعَلَ فَعْلَهُ، فَعْلَهُ الْغَرِيبَ، وَلِيَعْمَلَ عَمَلَهُ، عَمَلَهُ الْغَرِيبَ.» ؟! قديمًا في أيام داود الملك، حينما عَلَمَ الفلسطينيون بإن أسباط إسرائيل الباقية قد مَلَّكوا داود، رتبوا صفوفهم وقرروا أن يباغتوه بالهجوم في منطقة بَعل فراصيم، ولكن الرب كَلَّمَ داود بإنه سيدفعهم هناك ليده، وهذا ما حدث؛ وَعَلَّقَ داود على ذلك بإن: «قَدِ اقْتَحَمَ الرَّبُّ أَعْدَائِي أَمَامِي كَاقْتِحَامِ الْمِيَاهِ». لِذلِكَ دَعَى اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «بَعْلَ فَرَاصِيمَ» 2 صم 5: 20 ، فعاود الفلسطينيون تجميع صفوفهم وصعدوا من جديد لمواجهة داود، ومن جديد سأل داود الربَّ، فوعده الربُّ إنه هذه المرة سيخرج الرب بنفسه لقتالهم عند جبعون 1 أي 14: 15 – 16. هذا هو عمل الرب المنطقي والطبيعي، ولكن هنا في هذه الآيات، يعدُ الرب قادة أورشليم الأشرار، بإنه سيفعل فعلًا غريبا وعملًا غريبًا، سيكرر ما فعله في فراصيم وجبعون ولكن ليس ضد أعداء إسرائيل بل سيخرج ضد رؤساء شعبه! وبذلك أُعتبر عمله وفعله هذا غريبًا.

هذا هو السياق التاريخي والبعد الماسياني لهذا النص الجميل، أما المعنى الروحي الذي نريد أن نتحدث عنه في هذا المقال، فهو الصليب كفعل الله الغريب وعمل الله الغريب، والسبب في ذلك هو أن حجر الزاوية الكريم الذي يتنبأ عنه إشعياء هنا، والذي هو الماسيا لم يكن ليكون حجر امتحان لولا إصرار الرب (الماسيا) أن يُصلب! وهو الأمر الذي بدا غريبًا على ذهنية البشر كَكُل والتلاميذ واليهود واليونانيين وحتى يومنا هذا حتى بين المسيحيين أنفسهم!

منهجية الصليب (الإخلاء من مجد الألوهة حتى التجسد وليس كإنسان حر بل كعبد، والطريق الكربة والباب الضيق، قبول الآلام الطوعية طاعةً للآب السماوي وحبًّا في خلاص البشر، وقبول الظلم والتعيير والإساءات، وإنكار الذات وإماتتها، والتواضع حتى غسل الأرجل، والهروب من العظمة) هي فعل الرب الغريب وعمله الغريب! البشر لم يعتادوا أبدًا أن يفكروا كما يفكر الله «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ.» (إش 55: 8)، والصليب هو الذي كشف هذا البون الشاسع بين الله والبشر. منهجية الحياة المصلوبة هي التي جعلت المسيح يبدو غريبًا حتى لتلاميذه المقربين، والإيمان به غريبًا وصعبًا حتى بين المعجبين به، وتبعيته والاقتداء به عسيرًا جدًا حتى إلى غالبية المسيحيين!

لنتذكر موقف القديس بطرس الرسول من تصريح المسيح علانية بحتمية آلامه، وموقف المسيح من بطرس: «فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ الْمَسِيحُ!» 30 فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. 31 وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. 32 وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. 33 فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مر 8: 29 – 33). لقد تَعَثَّر بطرسُ من كلام المسيح عن آلامه وموته وبدأ يوبخه! لسان حال بطرس: عيب قوي اللي بتقوله يا يسوع؛ لا يليق بالماسيا أن يقال عنه هذا الكلام، الصليب لا يليق بالله. بدا يسوعُ المصلوبُ غريبًا عن فكرنا وعن كبريائنا وعن فهمنا للمجد والعظمة. وفي الوقت نفسه بدا بطرسُ غريبًا عن اهتمامات الله وأفكاره لأنه استغرب الصليب! حينما آمن بولس الرسول بالمسيح وبدأ يكرز به، بدا يسوعُ المصلوبُ لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة (1كو 1: 23).

إذا أردنا مزيدًا من الوضوح لكون المسيح المصلوب غريبًا لنا وللفكر البشري، وفي الوقت نفسه، كيف أن أفكار البشر غريبة عن الله، يمكننا أن نتأمل في الصورة التي أوحى بها الروح القدس للنبي الإنجيلي إشعياء عن الماسيا في أناشيد العبد المتألم الخمسة الواردة في الجزء الثاني من سفره

1- الله الآب والابن يتمجد بالصليب!

لنقرأ ما جاء في نشيد العبد المتألم الثاني:

«اِسْمَعِي لِي أَيَّتُهَا الْجَزَائِرُ، وَاصْغَوْا أَيُّهَا الأُمَمُ مِنْ بَعِيدٍ: الرَّبُّ مِنَ الْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ اسْمِي، 2 وَجَعَلَ فَمِي كَسَيْفٍ حَادٍّ. فِي ظِلِّ يَدِهِ خَبَّأَنِي وَجَعَلَنِي سَهْمًا مَبْرِيًّا. فِي كِنَانَتِهِ أَخْفَانِي. 3 وَقَالَ لِي: «أَنْتَ عَبْدِي إِسْرَائِيلُ الَّذِي بِهِ أَتَمَجَّدُ». 4 أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: « عَبَثًا تَعِبْتُ. بَاطِلًا وَفَارِغًا أَفْنَيْتُ قُدْرَتِي. لكِنَّ حَقِّي عِنْدَ الرَّبِّ، وَعَمَلِي عِنْدَ إِلهِي». 5 وَالآنَ قَالَ الرَّبُّ جَابِلِي مِنَ الْبَطْنِ عَبْدًا لَهُ، لإِرْجَاعِ يَعْقُوبَ إِلَيْهِ، فَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ إِسْرَائِيلُ فَأَتَمَجَّدُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَإِلهِي يَصِيرُ قُوَّتِي. 6 فَقَالَ: «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْدًا لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ، وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ».

7 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ فَادِي إِسْرَائِيلَ، قُدُّوسُهُ، لِلْمُهَانِ النَّفْسِ [قدسوا من يحتقر نفسه][3]، لِمَكْرُوهِ الأُمَّةِ، لِعَبْدِ الْمُتَسَلِّطِينَ: «يَنْظُرُ مُلُوكٌ فَيَقُومُونَ. رُؤَسَاءُ فَيَسْجُدُونَ. لأَجْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَمِينٌ، وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي قَدِ اخْتَارَكَ». 8 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «فِي وَقْتِ الْقُبُولِ اسْتَجَبْتُكَ، وَفِي يَوْمِ الْخَلاَصِ أَعَنْتُكَ. فَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ، لإِقَامَةِ الأَرْضِ، لِتَمْلِيكِ أَمْلاَكِ الْبَرَارِيِّ، 9 قَائِلًا لِلأَسْرَى: اخْرُجُوا. لِلَّذِينَ فِي الظَّلاَمِ: اظْهَرُوا.» إش 49: 1 – 9 (عبري)

يتحدث النص عن آلام المسيح ومذلته ومهانته ويا للعجب، يرى الآب فيها مجدًا له! ويرى فيها الابنُ جدًا له! أليس هذا حقًا غريبًا على فكر العالم؟! أليس المجد هو أن نكون ذوي عظمة وسلطان ورئاسة وغِنى؟! أليس المجد في احترام الآخرين لنا وشهرتنا بينهم؟! يبدو أن أفكار الله ليست كأفكارنا، وطرقه ليست كطرقنا. إن المجد عند الآب والابن هو خيرنا نحن البشر، كما يقول النشيد؛ فالآب أرسل ابنه عبدًا متألما ليرد إليه إسرائيل شعبه القديم والأمم شعبه الجديد ويؤلف بينهم. إن خلاص البشر وغلبتهم على الموت والخطيئة والشيطان وتحررهم من الأسر هو مجد الآب ومجد الابن. وما كان ليتحقق هذا لولا اعتماد الرب لمنهجية الصليب في حياته وموته بالجسد.

لطالما عثرُ العالم بالمسيح المصلوب، وعلى سبيل المثال، نورد حوار القديس والفيلسوف الشهيد يوستين مع تريفون اليهودي في النصف الأول من القرن الثاني في مدينة أفسس، كان القديس يوستين يورد العديد من نصوص الأنبياء التي تحققت في يسوع وحياته وآلامه وموته وقيامته وعندما أورد لتريفون نبوة دانيال النبي (دا 7: 9 – 28) عن ابن الإنسان الذي قرَّبوه إلى قديم الأيام، فَأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له وتمجده كل أمم الأرض، اعترض تريفون قائلًا: «إن الفقرات التي تستشهد بها من الكتاب المقدس تثبت أننا ينبغي أن نتطلع إلى هذا المسيا العظيم والمُمَجَّد الذي كابن الإنسان يأخذ الملكوت الأبدي من قديم الأيام أما مسيحكم المزعوم هذا فكان بلا مجد ولا كرامة لدرجة أنه وقعت عليه أشد لعنة في ناموس الله، أي أنه صُلِب على الصليب.»[4]

عاد تريفون بعد قليل واعترف بإن هناك نبوات تتحدث عن المسيح بإنه سوف يتألم ويُدعى صخرة.[5] ولكنه قال ليوستين:

أنت تعلم جيدًا أننا نحن اليهود نتطلع جميعًا إلى مجيء المسيح ونعترف أن جميع النصوص الكتابية التي ذكرتها تشير إليه…. ولكننا نشك في ضرورة صلب المسيح بهذا الشكل المشين لأن الناموس يقول أن مَن يُصلَب فهو ملعون. وبالتالي ليس من السهل إقناعي بهذه النقطة. ومع أن الأسفار المقدسة تذكر أن المسيح ينبغي أن يتألم ولكن عليك أن توضح لنا -إن أمكن- ما إذا كان هذا الألم من النوع الذي لعنه الناموس…. ويموت هذه الميتة المشينة المخزية…. أننا نرى ذلك مستحيل.[6]

ما رآه إشعياء من مجد الآب والابن في الصليب، أكده ما أورده البشير يوحنا في إنجيله عدة مرات (راجع يو 12: 16، 23، 28؛ يو 13: 31 – 32؛ يو 17: 1)

2- المسيح يرتفع ويتعالى بالصليب!

في النشيد الرابع للعبد المتألم، نقرأ عن الأمر نفسه بصورة أخرى:

«هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. 14 كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. 15 هكَذَا يَنْضِحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ  أَفْوَاهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ. مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ 2 نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. 3 مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. 4 لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. 5 وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. 6 كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. 7 ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8 مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9 وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. 10 أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. 11 مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. 12 لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ  سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ.»

إن النشيد الرابع يبدأ بالتأكيد على رفعة وتمجيد الابن (العبد المتألم) آية 13، رُغم أن باقي النشيد يرسم صورة مشينة عن عار الصليب. وبداية النشيد أيضًا تكشف عن اندهاش واستغراب (آيتان 14 – 15) الكثيرين وصدمتهم بل وعدم إيمان وتصديق الكثيرين. ومرة أخرى نكتشف أن ارتقاء الابن وتعاليه وتساميه إنما هو المكانة التي تحصلت عليها الطبيعة البشرية في المسيح من جرَّاء اتضاعه وحمله لخطايا البشر في جسده وقبوله التأديب عنهم حتى أنه سكب حياته كماء مسكوب بموته عنَّا! ولكن من أجل السرور الموضوع أمامه والذي هو شفائنا وخلاصنا وتجديد طبيعتنا احتمل كل هذا الخزي وحسبه مجدًا. ومن تعب نفسه أبصر الخير الذي حصلَ عليه البشر من جرَّاء مذلته، فأكل وشبع!

كشفَ الصليب كم إننا غرباء عن الله في أفكارنا وطريقة حياتنا. كنَّا نظن أن الرب خلقنا لمجده بالمعنى الذي نفهمه نحن أي أنه يريدنا عبيدًا له نتسول مرضاته ونهلل بتمجيداته ولكن الصليب كشف أنه خلقنا بالفعل لمجده، ولكن كما يفهمه الله أي إنه يتمجد حينما نحيا أحرارًا من الخطايا وحينما تفوح منا رائحة الحب والتواضع والقداسة حينما نصير على شاكلته ونقبل الصليب منهج حياة ومنهج موتٍ. بالصليب بدا الله غريبًا جدًا للعالم وبدا العالم غريبًا جدًا لله!

3 – الله هو التواضع والحب وبدا ذلك أيضًا في خدمة غسل الأرجل ومن جديد بدا الله يعمل عمله الغريب

فغسل الأرجل عمل غريب حينما يأتي من السيد للعبيد ومن المعلم للتلاميذ وهو غريبٌ عنا ولكنه ليس غريبًا عن المصلوب ولا عن الصليب بل يتوافق تمامًا مع شخصية الله وأعماله الغريبة. لنذهب إلى علية القديس مرقس في ليلة آلام السيد لنستعيد مشهد غسل المسيح لأرجل تلاميذه:

«1أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. 2 فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، 3 يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، 4 قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، 5 ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا. 6 فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ 7 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». 8 قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». 9 قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي». 10 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». 11 لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». 12 فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ 13 أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. 14 فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، 15 لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. 16 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. 17 إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ.»

النص يؤكد أن المسيح كان مدركًا تمامًا لما بيده من سلطان إلهي لأنه الابن الوحيد وكلمة الآب، وكان مدركًا تمامًا للحب الذي بلغ منتهاه والذي أحبَّ به خاصته الذين في العالم، ومن هذا السلطان والمركز الإلهي وبهذا الحب الذي بلغى منتهاه وبهذه الأيدي التي هي يدا الله الممجد بالحقيقة،[7] قام عن العشاء وصب ماء في مغسل واتزر بمنشفة وجلس عند أقدام تلاميذه ليغسلها!  ومن جديد يظهر بطرسُ لينهاه. سبقَ أن نهاه عن الحديث عن نيته بقبول الألم والموت، وهنا ينهاه عن النزول إلى هذا المستوى من التواضع. لا تدينوا بطرس، كُلنا نفكر كبطرس وهو تكلم بلساننا جميعًا. فقط لكونه جريئًا، تَكَلَّم وَعَبَّرَ. ومن جديد يرفض المسيح رفضَ بطرس ويشرح له حتمية هذه الخدمة، فهي تؤهل المغسولين لنوال نصيبًا مع المسيح في ملكوته! آه يا يسوع. أهكذا كان كل مجد وكل خير وكل رفعة لي، لابد وأن تأتي عبر انحناء وألم وعار لك؟! ولكن المسيح لا يرى في غسله لأرجلنا شيئًا مخزيًّا أو عملًا غريبًّا عنه. نحن فقط مَنْ نرى ذلك عملًا غريبًّا، أمَّا هو فيتصرف وفق طبيعته وشخصيته! في إنجيل القديس لوقا روى المسيح مثلًا عن مجيئه، فقال لتلاميذه: «36وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجعُ مِنَ الْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ. 37 طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ.» لو 12: 36 – 37 وهذا المثل يبين أن المسيح لن يتخلى عن روح غسل الأرجل حتى وهو في أوج مجده في الملكوت! إن روح غسل الأرجل ليست غريبة عن مجد الله في الملكوت،[8] ولكنها غريبة عنَّا نحن التراب والرماد!

السؤال المؤلم اليوم، هو: هل قَبِلَ المسيحيون الصليب ولم يعد غريبًا لهم؟ أم إنهم كاليهود يرونه عثرة، وكاليونانيين يرونه جهالة؟ مجتمع المسيحيين الأوائل كان المسيح المصلوب لهم هو قوة الله وحكمة الله (1 كو 1: 24)

اليوم غالبيتنا يعيش بمنهجية مغايرة لمنهجية الصليب التي هي طريقة حياة وطريقة موت، نحن لا نحب إنكار ذواتنا وبالتالي نحن غرباء عن فكر الله، نحن لا نحب المتكأ الأخير ولا التواضع، وبذا فنحن غرباء عن فكر الله، نحن لا نرحب بالإساءات لأجل اسم المسيح ولا نسكت عن الإهانات (إلا لو كنا ضعفاء لا نقوى على رد الإهانة)، وبذا فنحن غرباء عن فكر الله، نحن نبحث عن مجد الناس والعظمة والشهرة وبذا فنحن غرباء عن فكر الله، نحن لا نحب أن نصلب الجسد مع الأهواء والشهوات، بل نترك له الحبل على الغارب، وبذا فنحن غرباء عن فكر الله. نحن لا نسلم حياتنا عن الآخرين، وبذا فنحن غرباء عن فكر الله، نحن لا نغفر للمسيئين وبذا فنحن غرباء عن فكر الله. بكل أسفٍ بعد 2000 سنة من صليب المسيح، يبدو الصليب غريبًا على معظم المسيحيين إلا لو كان صليبًا مزيفًا من الذهب أو الفضة أو الخشب. ولكن هذا الوضع ينطلي على خطورة كبيرة، لأننا سنبدو نحن كذلك بالنسبة للصليب أي غرباء ولسنا جديرين بالملكوت: «فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لاَبِسًا لِبَاسَ الْعُرْسِ. 12 فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. 13 حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. 14 لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (مت 22: 11 – 14). وهذا عينه نقرأه في نبوة صفنيا: «لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ قَرِيبٌ. لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَعَدَّ ذَبِيحَةً. قَدَّسَ مَدْعُوِّيهِ. 8 وَيَكُونُ فِي يَوْمِ ذَبِيحَةِ الرَّبِّ أَنِّي أُعَاقِبُ الرُّؤَسَاءَ وَبَنِي الْمَلِكِ وَجَمِيعَ اللاَّبِسِينَ لِبَاسًا غَرِيبًا.» (صف 1: 7 – 8). يبدو أن أحد المعاني للباس العرس هو أن نكون مصلوبين كالسيد، وأن نكون ذبيحة كما هو ذبيحة، أما غير ذلك فسيكون لِباسًا غريبًا لا مكان له في ملكوت الله.

          يبدو أن المسيحيين اليوم قد اصطدموا هم أيضًا (كما الإسرائيليين قديمًا وحتى اليوم) بحجر الصدمة (راجع إش 8: 14؛ 28: 16؛ رو 9: 32 – 33)! فالصليب يزين الكنائس والبيوت والصدور والأيدي والملابس والكتب ولكنه مرفوض تمامًا كمنهج حياة وموت! يرفض غير المسيحيين في بلادنا الصليبَ شكلًا وموضوعًا، ولكن يبدو بكل أسفٍ أننا نحن نقبله شكلًا ونرفضه موضوعًا، أو لِنقل بشيء من الإنصاف، فإننا نقبل أن نؤمن بالمسيح مصلوبًا لأجلنا ولا نقبل أن نُصلب لأجله ومعه. إننا نرفض فعله الغريب ولا نرضى بعمله الغريب.

4 – الرب يحاول جاهدًا أن يغرس فينا تعليمه الغريب وعمله الغريب حتى لا نكون غرباء عنه

في تصريح المسيح وإنبائه لتلاميذه عن آلامه الآتية، جاء في إنجيل القديس مرقس وإنجيل القديس لوقا ما يكشف أن هذا كان تعليمًا متكررًا منه لهم وتلقينًا مستمرًا[9]:

+ «أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». 32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ. 33 وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» 34 فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ» (مر 9: 31 – 35).

+ «ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ». 45 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هذَا الْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ. 46 وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ 47 فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، 48 وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ هذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا» (لو 9: 44 – 48).

أراد الرب أن يذاكر تلاميذه هذا التعليم الغريب عن العالم والخاص بالصليب عمله الغريب وفعله الغريب، يذاكروه ويحفظوه عن ظهر قلب حتى وإن لم يفهموه حاليًّا.[10]

+ في تعليم المسيح لتلاميذه عن آلامه وللجموع عن كيفية تبعيته، قال لهم: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 23 وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. 24 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. 25 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟» لو 9: 22 – 25.  تحدث المسيح عن صليبه وعن صليبنا، وأوضح أن تبعيته تتضمن إنكارنا لذواتنا وحملنا لصليبنا، لا يومًا واحدًا ولا يومين بل كلَّ يومٍ! إن يدعونا لعمله الغريب وفعله الغريب!

          من هذه النصوص ومن غيرها يتبين لنا أن الصليب هو العمل الغريب والفعل الغريب الذي عمله الله وهو بذاته أداة كشف ووسيلة علاج؛ أداة تكشف لنا كم نحن غرباء عن فكر الله والقديسين وعلاج في الوقت نفسه؛ لأنه إن قبلنا أن نحمل صليبنا كل يوم، نتغرب عن العالم ونصبح متوافقين مع الله وقديسيه.

كتب القديس أثناسيوس الرسولي عن معلمه القديس أنبا أنطونيوس أب الرهبان هذه الكلمات ضمن سيرته:

بعد هذا حلَّ بالكنيسة الاضطهاد الذي حدث أيام مكسميانوس وعندما اقتيد الشهداء الأطهار إلى الإسكندرية تبعهم أيضًا أنطونيوس تاركًا صومعته، وقائلًا: لنذهب نحن أيضًا حتى إذا دعينا كافحنا أو نظرنا المكافحين. وقد تاق إلى الاستشهاد، ولكنه إذا لم يشأ تسليم نفسه، خدم المعترفين في المناجم والسجون. وكان في شدة الغيرة في ساحات القضاء، لكي يبعث الهمة في نفوس الذين دعوا للجهاد. أما الذين دعوا للاستشهاد، فكان يقبلهم ويسندهم في طريقهم حتى يكملوا. وإذ رأى القاضي عدم خوف أنطونيوس ورفاقه، وغيرتهم في هذا الصدد، أمر بأن لا يظهر راهب في ساحة القضاء، أو يبقى في المدينة على الإطلاق، ولذلك وجد جميع الباقين أنه من الأصلح أن يختبئوا في ذلك اليوم. أما أنطونيوس فلم يبال كثيرًا بذلك الأمر، حتى أنه غسل ثوبه، ووقف طول اليوم التالي في مكانٍ مرتفع أمامهم، وظهر في أحسن حال أمام الوالي. وذلك فعندما تعجب من هذا جميع الباقين، ورآه الوالي ومرَّ به بحلته الملكية، وقف غير خائف مظهرًا استعدادنا نحن المسيحيين، لأنه كما قدمت كان يصلي أن يكون هو نفسه شهيدًا، ولذلك فكان يبدو عليه كأنه حزين لعدم حمل شهادته. لكن الرب حفظه لأجل فائدتنا وفائدة الآخرين، لكي يكون معلمًا للكثيرين عن النسك الذي تعلمه من الكتب المقدسة، لأن الكثيرين رغبوا أن يقتدوا بطرقه بمجرد رؤيتهم لطريقة حياته. وهكذا خدم المعترفين ثانية، وتعب في خدمته كأنه شريكهم في الأسر. وعندما توقف الاضطهاد أخيرًا، وحمل المغبوط الأسقف بطرس شهادته، انصرف أنطونيوس، واعتزل ثانيةً في صومعته، وبقى هنالك. وكان كل يوم شهيدًا أمام ضميره، مناضلًا في جهاد الإيمان. وصار نسكه أشدَّ صرامةٍ ….[11]

5 – العمل الغريب في أيامنا هذه هو صلب أهواء الجسد وشهواته

يقول القديس بولس الرسول: «ولكن الذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24)، ويقول القديس بطرس الرسول: «أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس» (1 بط 2: 11).

قال واحدٌ من الذين صار لهم فكر المسيح فأضحى غريبًا عن هذا العالم وأفكاره -كمعلمه وسيده:

أفضل للإنسان أن يعيش ميتًا في نظر الناس والعالم ويخلص، من أن يتبوأ أعظم المراكز والخدمات ويخسر حريته وحياته الأبدية، كما أنه أفضل للإنسان أن يُقال عنه إنه جاهل أو ضعيف ويُزدَرَى به ويكون سائرًا في طريق الحق والحياة، من أن يكون شغله الشاغل مديح الأفواه على المنابر كقوي وعظيم وتكون حياته الداخلية خربة وخالية والظلمة تلاحقه.[12]

تحضرني قصتان، بطلاهما شاب وشابة

القصة الأولى: ذهب الشاب مع أسرته إلى القاهرة ليشارك في حضور فرح ابن أحد الأقرباء. وبعد صلاة الإكليل، ذهبوا لحضور الحفل المُقام بإحدى فنادق الخمس نجوم. صُدِمَ الشاب حينما وجدَ أن الحفل به راقصة وشرب للخمور وموسيقى وأغاني صاخبة. صرخَ في قلبه إلى الرب، متسائلًا: يا رب ماذا أفعل؟! لم يحتمل قلبه العامر بحب المسيح أن يبقى في هذا المكان بهذه الأجواء. ألهمه قلبه أن يفعل فعله الغريب ويعمل عمله الغريب؛ أسرع إلى إحدى دورات المياه ودخل وأغلاق الباب وتحول إلى الصلاة وَحَوَّل دورة المياه إلى سماء… مضى الوقت به دون أن يدري. اضطرب موظف الأمن من إبطائه الكبير في الخروج وطرق الباب عدة مرات خوفًا من أن يكون قد أصابه مكروهٌ. ولمَّا لم يجد جواب، طلبَ المساعدة من إدارة الفندق لكسر الباب، وحينما بدأوا، استفاق الشاب من نشوة الصلاة وصرخ طالبًا منهم أن ينتظروا وإنه بخير، وسيخرج حالًا.

يا أحبائي، السماء تنظر علينا بلهفة، منتظرة أن ترانا نفعل أفعالًا غريبة ونعمل أعمالًا غريبة.

القصة الثانية: ذهبت الشابة الصغيرة المجتهدة في عملها، للمشاركة في احتفالية تابعة للمؤسسة الكبيرة التي تعمل بها. أُقيمت الاحتفالية على يومين بإحدى الفنادق الكبرى، وكان هذا أثناء الصوم الكبير. إمعانًا في إكرام العاملين وإظهارًا لفخامة المؤسسة، امتلأت الموائد من الأطعمة الفاخرة واللحوم والمشويات والمشروبات وكان الجميع يأكلون ويشربون ويتبادلون الأحاديث والضحكات. بطلتنا الصغيرة تبحث عن أي أكل صيامي لأنها تعلمت في الكنيسة ألا تكسر الصوم، لم تجد سوى وجبة واحدة لا تحبها؛ طبق الكشري 😊 عاشت اليومين تأكل الكشري وسط سخرية بعض الزملاء المسيحيين الذين فَضَّلوا أن يكسروا الصوم يومي اللقاء ثم يعاودون الصوم بعدما يرجعوا إلى أسيوط.

يا أحبائي لا تظنوا إن الحفاظ على صومنا في أوقات السفر والرحلات أمرًا بسيطًا. في أيامنا هذه الحفاظ على مواسم الصوم وصومي الأربعاء والجمعة وضبط النفس أمام النهم صار أمرًا غريبًا وعملًا غريبًا تقدره السماء.

6 – العمل الغريب والفعل الغريب في أيامنا هذه هو أن نصلي فنعطي الربَّ إرادتنا، ونستلم منه إرادته

لنذهب يا أحبائي سويًّا -برهبة- إلى بستان جثسيماني ولنتأمل هذه المشاهد:

+ حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ».37 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. 38 فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». 39 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ».  40 ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 41 اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 42 فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». 43 ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. 44 فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلًا ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ.» مت 26: 36 – 44.

+ وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». 33 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34 فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36 وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ» مر 14: 32 – 36.

+ وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ. 40 وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». 41 وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى 42 قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». 43 وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. 44 وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.» لو 22: 39 – 44.

إن جهاد المسيح في الصلاة للآب في جثسيماني حتى الدَهَش والاكتئاب ونزول قطرات العرق كالدم كان من نتاجه أن اتحدت مشيئة المسيح بالجسد بمشيئة الآب وقام ومضى إلى الذين يطلبون القبض عليه ليقتلوه! وهذا واحد من أروع معاني الصلاة ومُتَضَمن في الفعل في لغته اليونانية، كما سنرى: Προσεύχομαι الفعل اليوناني يتكون من مقطعين؛ الأول هو Προσ ويعني تجاه أو يستبدل، والثاني هو εύχομαι ومعناه يتمنى أو يصلي. وبذلك فالكلمة تعني حرفيًّا أن الصلاة هي تفاعل مع الله، ينتج عنه أن نستبدل رغبتنا برغبته هو بالإيمان الذي يمنحنا إياه.[13] وهذا عينه ما تعلمه بولس الرسول حينما صلى متضرعًا إلى الرب ثلاث مرات أن يرفع عنه شوكة الجسد حتى قَبِلَ فكر الله: تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمل.

خاتمة

بدا المسيح المتألم والمتواضع والمصلوب غريبًا عن العالم وعن أفكارنا وعن طرقنا، بدا لنا أنه يفعل فعله الغريب ويعمل عمله الغريب. وهو يدعونا أن نقبل عمله ونتغرب عن فكر العالم مثله بأن نُصلب كلَّ يومٍ معه ولأجله، وبذا فقط نصير أقرباءه وغرباء عن العالم بآنٍ. لأن الغريب حقًا هو من ليس له فكر الآب والابن. والفرصة سانحة لنا كلَّ يوم لنتبادل إرادتنا بإرادة الله بالصلاة وأن نصلب الجسد مع أهوائه وشهواته، وأن نغسل الأرجل كسيدنا ونفتش باجتهاد عن المتكأ الأخير في الكرامة والعظمة لنمسك به لأن هذا هو المجد الإلهي.

القس برسوم مراد

أسيوط في 12 أبريل 2023م

 

 

 

[1] Pulpit Commentary, «Is 28: 16», Accessed 4/12/2023, Available at https://biblehub.com/commentaries/pulpit/isaiah/28.htm
[2] Benson Commentary, «Isa 28: 16», accessed 4/12/2023, available https://biblehub.com/commentaries/benson/isaiah/28.htm
[3]  بحسب الترجمة السبعينية، انظر: إبيفانيوس (الأنبا)، الترجمة السبعينية للكتاب المقدس: سفر إشعياء (القاهرة: دار مجلة مرقس، 2020)، 214.
[4] القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد: الدفاعان والحوار ومع تريفون ونصوص أخرى، ترجمة آمال فؤاد (القاهرة: باناريون، 2012)، 172 – 173.
[5][5]  المرجع السابق، 179.
[6]  المرجع السابق، 255 – 56.
[7]  متى المسكين، شرح إنجيل القديس يوحنا: الجزء الثاني (دير القديس أنبا مقار: المؤلف، 1990)، 780.
[8] قصد الدهور: مفهوم الخلاص بكونه اتحادًا بين الله والبشرية  (القاهرة: باناريون، 2019)، 563 .
[9] متى المسكين، مع المسيح في آلامه حتى الصليب (دير القديس أنبا مقار: المؤلف، 1987)، 111 – 12.
[10]  المرجع السابق.
[11]  أثناسيوس الرسولي، حياة أنطونيوس، ترجمة القمص مرقس داود (القاهرة: كنيسة مار مرقس القبطية الأرثوذكسية، 1970)، 71 – 72.
[12]  متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية (دير القديس أنبا مقار، وادي النطرون: المؤلف، 1995)، 263.  
[13] See: https://biblehub.com/greek/4336.htm

شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

روحية
Rakoty CYCS

حزقيال النبي.. وكلمة الله..

كلمة لنيافة الأنبا يوأنس في عيد ميلاد مدرسة راكوتي الرابع عن حزقيال النبي وكلمة الله. حزقيال النبي وكلمة الله – نيافة الأنبا يوأنس by Rakoty

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة