الصليب وإبطال عبادة الأوثان

«23 وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا قِائِلًا: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. 24 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.25 مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. 26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. 27 اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ: أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ؟ وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ، 28 أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!» (يو 12: 23 – 28)

مقدمة

كما اعتدنا في كل عام وكل موسم، أن نجتمع معًا في الكنيسة بكل حماس وفرح لنسبح الرَّبَّ على أعماله وآلامه الخلاصية من أجلنا، ولكي نبحث لنا عن نصيب جديد من مائدة المحبة التي لا تُحد والتي أعدها المخلص لخاصته، لأننا إذا ما وقفنا من جديد لنتأمل آلامه الخلاصية من أجلنا وموته المحيي وقيامته المجيدة، فإننا نتغذى على المحبة لننمو بها ونتحول إليها. وإذا ما اِقتربنا إلى لهيبها، فإننا نحترق بها لتلهب قلوبنا الباردة، «لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ…. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ. 7 مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا» (نش 8: 6 – 7).

أمَّا عن موضوع تأملنا اليوم في هذا الموسم الجديد، ونحن حاضرون أمام صليب المسيح، فهو عن «صليب المسيح وإبطال عبادة الأوثان». كتب القديس البابا أثناسيوس الرسولي مؤلفًا هامًا ذائع الصيت مكونًا من جزئين؛ ضد الوثنين وتجسد الكلمة، وهما في الأصل عملًا واحدًا، دفاعًا عن صليب المسيح وتجسده وألوهيته، ومن ضمن الدفوع التي ساقها على فاعلية الصليب وألوهية المخلص المصلوب، دور الصليب في القضاء على عبادة الأوثان؛ يقول: «وهكذا فمن ناحية يُحَطِّم عن طريق الصليب -الذي يُظن أنه ضعف- كل ضلالات عبادة الأوثان، ومن ناحية أخرى يُقنع بطريقة خفية أولئك الهازئين وغير المؤمنين، حتى يدركوا ألوهيته وسلطانه»[1].

ويقول أيضًا:

وذلك لئلا يظن أحدٌ أن تعاليمنا رخيصة أو يتوهم أن الإيمان بالمسيح أمرٌ غير معقول؛ لأن هذا ما يتهمنا به الوثنيون ويهزأون بنا من أجبه، وبسببه يحكمون علينا جهارًا متذرعين في هذا بواقعة صلب المسيح فقط. وهنا بالتأكيد لا يسع المرء إلا أن يُشفق عليهم لانعدام شعورهم؛ لأنهم وهم يهزأون بصليب المسيح، لا يرون أن قوته قد ملأت المسكونة كلها، وأنه من الأفعال التي تتم به أصبحت معرفة الله واضحة للجميع.

…. لأنه بعد واقعة الصليب اندثرت كل عبادات الأوثان وتبددت بهذه العلامة كل خيالات الشياطين وأصبح المسيح وحده هو الذي يُعَبد، وبه صار الآب معروفًا. وهكذا صار المتشككون في خزي، بينما صار الصليب يربح كل يوم، وبطريقة غير منظورة، نفوس هؤلاء المخالفين.[2]

وَأيضًا:

«وبينما أضلت الشياطين عقول البشر قديمًا باستخدامها الينابيع والأنهار والأشجار والحجارة، وهكذا أثرت على بسطاء الناس بغواياتها فإن خداعاتها بطلت الآن بعد الظهور الإلهي للكلمة، لأنه حتى الإنسان العادي يستطيع بعلامة الصليب فقط أن يفضح ضلالاتها»[3].

قد يبدو عنوان العظة أو موضوعها غريبًا أو صادمًا للبعض؛ فنحن لم نأتِ إلى الكنيسة في هذه الأيام العظيمة لنسمع عن معلومات تاريخية، بل أتينا لنسمع ما يعيننا على خلاص نفوسنا. لكن مهلًا، فالموضوع لا يخص التاريخ، بل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا نحن!

أوشية الموعوظين

منذ يومين ونحن مجتمعون لنصلي صلاة القنديل العام، صلينا أوشيتي الموعوظين والاجتماعات. وفيهما يأتي ذِكر «عبادة الأوثان»: «اُذكر يا رب موعوظي شعبك. ارحمهم. ثبتهم فى الإيمان بك. كل بقية عبادة الأوثان انزعها من قلوبهم ناموسك. خوفك. وصاياك. حقوقك وأوامرك المقدسة ثبتها فى قلوبهم. اعطهم أن يعرفوا ثبات الكلام الذي وعظوا به، وفي الزمن المحدد فليستحقوا حميم الميلاد الجديد لغفران خطاياهم، إذ تعدهم هيكلاً لروحك القدوس».

أوشية الاجتماعات

«…. عبادة الأوثان بالكمال اِقلعها من العالم».

وبالرغم أن أوشية الموعوظين تخص هؤلاء الذين يتقبلون تعليم الإيمان والمسيحي استعدادًا للمعمودية المقدسة، إلا إنني وجدت نفسي أتوقف أمام تلك الكلمات: «وكل بقية عبادة الأوثان اِنزعها من قلوبهم»، ووجدت نفسي أصلي هذه الطلبة لقلبي أنا. فبالرغم إنني مسيحي ولم أعبد الأوثان قط، لا أنا ولا آبائي، إلا أن شيئًا من الوثنية قد لطَّخ عبادتي للرَّبِّ، وهنا انتبهت أن لن يستطيع أحدٌ أن ينتزع من قلبي هذه الوثنية سوى صليب المسيح. وهنا أدعوكم لتتعرفوا على ملامح هذه الوثنية الخفية التي تلطخ عبادتنا للرَّبِّ، وكيف ينتزعها صليب المسيح من حياتنا وقلوبنا.

تسلل عبادة الأوثان إلى علاقتنا بالله

لقد تسللت عبادة الأوثان إلى علاقتنا بالله، ولكن ليس بمعنى إننا نعبد آلهة كثيرة أو إننا فقدنا إيماننا بوحدانية الله، أو أن ممارساتنا الروحية من طقوس وعبادات هي عبادة أوثان. كلا، بل المقصود هو تسلل المبادئ التي تقوم عليها عبادة الأوثان إلى عبادتنا لله. وهذا يتضح بسهولة إذا سألنا أنفسنا لماذا عبدت الأمم قديمًا الآلهة والأوثان المختلفة. وإذا ما وجدنا أن هذه الأسباب أو المبادئ تسيطر على قلوبنا ونحن نعبد الرَّبَّ، فعلينا حينئذ أن نعترف بهذا ونبحث عن كيفية تنقية علاقتنا بالله من هذه الرجاسات.

النفعية

إن «النفعية» هي المظلة الكبرى التي تجمع كل أسباب ودوافع رواج عبادة الأوثان قديمًا وحديثًا، سنجد العديد من العناوين الفرعية تأتي تحت هذا العنوان الرئيسي وتُعتبر ترجمةً له، وللأسف معظم هذه الأسباب والدوافع تتسلل إلى علاقتنا وعبادتنا للرَّبِّ وقد تسيطر عليها تمامًا، وسنرى في الفقرات القادمة أمثلة كثيرة من الكتاب المقدس تؤكد على صحة وقوف هذا السبب وراء عبادة الأوثان وتشويه عبادة الله.

مثال رقم 1: (النفعية المادية – المجد الباطل)

«23 وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ شَغَبٌ لَيْسَ بِقَلِيل بِسَبَبِ هذَا الطَّرِيقِ، 24 لأَنَّ إِنْسَانًا اسْمُهُ دِيمِتْرِيُوسُ، صَائِغٌ صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ لأَرْطَامِيسَ، كَانَ يُكَسِّبُ الصُّنَّاعَ مَكْسَبًا لَيْسَ بِقَلِيل. 25 فَجَمَعَهُمْ وَالْفَعَلَةَ فِي مِثْلِ ذلِكَ الْعَمَلِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ سِعَتَنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ هذِهِ الصِّنَاعَةِ. 26 وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفَسُسَ فَقَطْ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيبًا، اسْتَمَالَ وَأَزَاغَ بُولُسُ هذَا جَمْعًا كَثِيرًا قَائِلًا: إِنَّ الَّتِي تُصْنَعُ بِالأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً. 27 فَلَيْسَ نَصِيبُنَا هذَا وَحْدَهُ فِي خَطَرٍ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي إِهَانَةٍ، بَلْ أَيْضًا هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ، الإِلهَةِ الْعَظِيمَةِ، أَنْ يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ، وَأَنْ سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا، هِيَ الَّتِي يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَالْمَسْكُونَةِ 28 فَلَمَّا سَمِعُوا امْتَلأُوا غَضَبًا، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الأَفَسُسِيِّينَ!»(أع 19: 23 – 28).

مثال رقم 2: (النفعية المادية – الحماية)

«15 فَأَجَابَ إِرْمِيَا كُلُّ الرِّجَالِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ نِسَاءَهُمْ يُبَخِّرْنَ لآلِهَةٍ أُخْرَى، وَكُلُّ النِّسَاءِ الْوَاقِفَاتِ، مَحْفَلٌ كَبِيرٌ، وَكُلُّ الشَّعْبِ السَّاكِنِ فِي أَرْضِ مِصْرَ فِي فَتْرُوسَ قَائِلِينَ: 16 «إِنَّنَا لاَ نَسْمَعُ لَكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي كَلَّمْتَنَا بِهَا بِاسْمِ الرَّبِّ، 17 بَلْ سَنَعْمَلُ كُلَّ أَمْرٍ خَرَجَ مِنْ فَمِنَا، فَنُبَخِّرُ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ[4]، وَنَسْكُبُ لَهَا سَكَائِبَ. كَمَا فَعَلْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا وَمُلُوكُنَا وَرُؤَسَاؤُنَا فِي أَرْضِ يَهُوذَا وَفِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ، فَشَبِعْنَا خُبْزًا وَكُنَّا بِخَيْرٍ وَلَمْ نَرَ شَرًّا. 18 وَلكِنْ مِنْ حِينَ كَفَفْنَا عَنِ التَّبْخِيرِ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَسَكْبِ سَكَائِبَ لَهَا، احْتَجْنَا إِلَى كُلّ، وَفَنِينَا بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ. 19 وَإِذْ كُنَّا نُبَخِّرُ لِمَلِكَةِ السَّمَاوَاتِ وَنَسْكُبُ لَهَا سَكَائِبَ، فَهَلْ بِدُونِ رِجَالِنَا كُنَّا نَصْنَعُ لَهَا كَعْكًا لِنَعْبُدَهَا وَنَسْكُبُ لَهَا السَّكَائِبَ؟» (إر 44: 15 – 19).

مثال رقم 3: (الحماية وطلب المعونة والمساعدة)

«22 وَفِي ضِيقِهِ زَادَ خِيَانَةً بالرَّبِّ الْمَلِكُ آحَازُ هذَا، 23 وَذَبَحَ لآلِهَةِ دِمَشْقَ الَّذِينَ ضَارَبُوهُ وَقَالَ: «لأَنَّ آلِهَةَ مُلُوكِ أَرَامَ تُسَاعِدُهُمْ أَنَا أَذْبَحُ لَهُمْ فَيُسَاعِدُونَنِي». وَأَمَّا هُمْ فَكَانُوا سَبَبَ سُقُوطٍ لَهُ وَلِكُلِّ إِسْرَائِيلَ» (2أخ 28: 22 – 23)[5].

مثال رقم 4: (الشهوانية والإحساس بوجود قوة إلى جانبي في مواجهة الأخطار)

«1 وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ».2 فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَاتُونِي بِهَا».3 فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ. 4 فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلًا مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: «هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ».5 فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ، وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ».6 فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ» (خر 32: 1 – 6).

(الشهوانية)

«1 وَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي شِطِّيمَ، وَابْتَدَأَ الشَّعْبُ يَزْنُونَ مَعَ بَنَاتِ مُوآبَ. 2 فَدَعَوْنَ الشَّعْبَ إِلَى ذَبَائِحِ آلِهَتِهِنَّ، فَأَكَلَ الشَّعْبُ وَسَجَدُوا لآلِهَتِهِنَّ. 3 وَتَعَلَّقَ إِسْرَائِيلُ بِبَعْلِ فَغُورَ» (عد 25: 1 – 3).

حينما يستخدم الإنسان الرَّبَّ خادمًا لأغراضه

«22 وَأَنْتَ لَمْ تَدْعُنِي يَا يَعْقُوبُ، حَتَّى تَتْعَبَ مِنْ أَجْلِي يَا إِسْرَائِيلُ. 23 لَمْ تُحْضِرْ لِي شَاةَ مُحْرَقَتِكَ، وَبِذَبَائِحِكَ لَمْ تُكْرِمْنِي. لَمْ أَسْتَخْدِمْكَ بِتَقْدِمَةٍ وَلاَ أَتْعَبْتُكَ بِلُبَانٍ. 24 لَمْ تَشْتَرِ لِي بِفِضَّةٍ قَصَبًا، وَبِشَحْمِ ذَبَائِحِكَ لَمْ تُرْوِنِي. لكِنِ اسْتَخْدَمْتَنِي بِخَطَايَاكَ وَأَتْعَبْتَنِي بِآثَامِكَ» (إش 43: 22 – 24).

«أَقْوَالُكُمُ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: مَاذَا قُلْنَا عَلَيْكَ؟ 14 قُلْتُمْ: عِبَادَةُ اللهِ بَاطِلَةٌ، وَمَا الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَنَّنَا حَفِظْنَا شَعَائِرَهُ، وَأَنَّنَا سَلَكْنَا بِالْحُزْنِ قُدَّامَ رَبِّ الْجُنُودِ؟ 15 وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَيْضًا فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ. بَلْ جَرَّبُوا اللهَ وَنَجَوْا» (ملا 3: 13 – 15).

ماذا يحدث لعبادة الأوثان حينما يؤمن الإنسان حقًا بصليب المسيح؟

يحدث ما قاله القديس أثناسيوس الرسولي: «وهكذا فمن ناحية يُحَطِّم عن طريق الصليب -الذي يُظن أنه ضعف- كل ضلالات عبادة الأوثان»، «…. لأنه بعد واقعة الصليب اندثرت كل عبادات الأوثان وتبددت بهذه العلامة كل خيالات الشياطين»، «بطلت الآن بعد الظهور الإلهي للكلمة، لأنه حتى الإنسان العادي يستطيع بعلامة الصليب فقط أن يفضح ضلالاتها»[6].

  • الصليب كـــ «الحب الباذل والمُطيع» [الحب بدلًا من النفعية]

كان الصليب في مسيرة حياة الرَّبِّ يسوع هو بالدرجة الأولى هو فعل حب مِن نحو الآب السماوي يتسم بالطاعة التامة، ومن نحو البشرية يتسم بالبذل النهائي. فعل حب حتى الموت!

+ كان ليسوع مقصدٌ راسخٌ في الصليب؛ وهو أن يصل بحبه وطاعته للآب إلى المنتهى. في فصول البارقليط، يقول: «30 لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضًا مَعَكُمْ كَثِيرًا، لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ. 31 وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ ههُنَا» (يو 14: 30 -31). وَأيضًا: «10 إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ» (يو 15: 10). الرَّبُّ يسوع مستعدٌ دائمًا لفعل أي شيء يُمَجِّد الآب: «13 وَمَهْمَا …. فَذلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ» (يو 14: 13).

+كان المسيح يرى الصليب مستوىً نهائيًّا وأخيرًا في حبه لنا، وَأراد أن يصل بحبه لنا إلى هذا المنتهى: «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يو 13: 1). وَقال على الصليب: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو 19: 30). وقال أيضًا لتلاميذه في أحاديثه الوداعية: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يو 15: 13).

يوصينا الشيخ الروحاني (يوحنا الدلياتي) أن نصلي الصلاة التالية أهم من باقي الصلوات: «أيها الآب الصالح، أعطني محبتك، وإن كنت غير مستحق».[7] ويقول شمس الدين التبريزي: «لو كانت الجنة والنار بيدي لأحرقت الجنة وأطفأت النار .. لنُحِب الله حبًا خالصًا وليس عن خوف أو طمع»[8].

لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ

النفوس التي جُرحت بالحب الإلهي، تقول لله: «حبك أطيب من الخمر». يقول العلامة أوريجانوس:

إن كان هناك أي إنسانٍ قد اِشتعل بالمحبة الثابتة لله الكلمة؛ إن كان هناك شخصٌ، كما يقول النبي، قد جُرح بحلاوة هذا السهم المختار؛ إن كان هناك (أحدٌ) قد طُعن مرارًا وتكرارًا بالحربة المحبوبة لمعرفته، حتى يتوق إليه بالنهار والليل، ولا يقدر أن يتكلم عن أي شيء غيره، ولا يرغب أن يسمع أي شيء سواه، ولا يعرف أن يفكر إلا فيه، ولا يجد لذة في اشتهاء أو تمني أو ترجي أي شيء سواه؛ فإن هذه  النفس تقول عن جدارة: إني مجروحة بالحب (نش 2: 5)، إذ قد قبلت الجرح من ذاك الذي تكلم عنه النبي إشعياء: «جعلني كسهمٍ مختارٍ، وفي كنانته أخفاني».[9]

  • الصليب كـ «فِكْر» – «منهجية»- «حياة يومية» [الخسارة بدلًا من النفعية] + [العفة بدلًا من الشهوانية].

ما أجملك يا ابن الله؛ لقد احتفظ لنا القديس يوحنا في إنجيله بلؤلؤة كثيرة الثمن. يتحدث الرَّبُّ يسوع أمام تلاميذه عن موته على الصليب: «27 اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ: أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ؟ وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ، 28 أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!» (يو 12: 27). ما أجملك يا يسوع! حينما مثلت أمامه آلامه وصليبه بكل ما فيهما من مذلة وعار وهوان ودينونة خطايانا، اضطربت نفسه -كإنسان- وتساءل ماذا يصلي؟ هل أن ينجيه الآب من هذه الساعة؟ لا يتردد يسوع أبدًا ويختار ماذا يصلي: أيها الآب مَجِّد اسمك! اختار يسوع مجد الآب عن راحته وسلامته. اِختار مجد الآب الذي سيتضمن آلامه الرهيبة وموته. ومن هنا نفهم أن الصليب هو الأداة الوحيدة لاقتلاع بقايا عبادة الأوثان من علاقتنا بالله؛ إنه سيقضي على كل أثر للنفعية في عبادتنا، لذلك يدعو المسيح تلاميذَه وكلَّ مَنْ يرغب بتبعيته:

«حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي،» (مت 16: 24)

«وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي.» (مر 8: 34)

«وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي.» (لو 9: 23)

  1. إنكار النفس يعني إنكار مشيئاتها ورغباتها إذا تعارضت مع مشيئة الرَّبِّ. رغم أن الآب والابن لهما المشيئة نفسها، إلا أن الابن في تجسده يقول: «لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي.» (يو 6: 38). وصلى في جثسيماني:

 «39 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ»….42 فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (مت 26: 39، 42).

«36 وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مر 14: 36).

«41 وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى 42 قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ».43 وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. 44 وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لو 22: 41 – 44).

  • إنكار النفس يعني إماتة شهواتها، صلبها مثلما سَلَّمَ المسيح جسده الخاص البريء والبار لِيُصلَب

«6 عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ» (رو 6: 6).

«11 كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً للهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. 12 إِذًا لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ، 13 وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرّ للهِ» (رو 6: 11 – 13).

«فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ،» (كو 3: 5).

«وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ.» (غل 5: 24).

ختام

التأمل في حب المسيح وبذله على الصليب والهذيذ بكلمات الإنجيل المتعلقة بآلامه وموته المحيي، هو بمثابة رفع للصليب في مواجهة بقية عبادة الأوثان في حياتنا، وعندئذٍ سنقول ما المسيح: «اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا» (يو 12: 31)، الآن دينونة كل وثنية تلطخ علاقتي بالرَّبِّ وعبادتي له. الآن تُطرح كل بقية عبادة للأوثان من قلبي.

إلى هنا أعاننا الرَّبُّ

القس برسوم مراد – مدرسة راكوتي

الأحد 13 أبريل 2025م


شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

أعياد
marina hosny

سّر الموت والقيامة

مقدمة لم يكن الموت ضمن الخطة الإلهية في خلقة الإنسان، لكنه دَخل إلى العالم بحسد إبليس، والإرادة الإلهية حوّلت الموت من عقوبة إلى نعمة: «حولت

روحية
marina hosny

موسيقى الفرح

«مِن قبل صليبه دخل الفرح إلى العالم كله» مديح القيامة مقدمة وصف أحدهم إحدى السيدات المثقفات والعابسات في الوقت نفسه: «هي تعرف كل الكلمات …

روحية
marina hosny

إلهي ما أجملَه! خلاصه ما أعظمَه!

يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي عن صعوبة الإحاطة بكل أعمال المسيح بالجسد من أجلنا: وباختصار فإن الأعمال التي حققها المُخَلِّص بتأنسه عظيمة جدًا في نوعها

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة