مقدمة
لم يكن عمل الصليب فقط أن يحرّرنا من الخطيئة التي تُنتِج الموت، بل أيضًا بعد أن يحرّرنا، يربطنا ببرّ المسيح. فالحرية المسيحية، والتي تختلف عن حرية هذا العالم الزائل، هي حرية من الخطيئة، لكن في الوقت ذاته عبودية لله، بالطاعة؛ فهي عبودية طوعية إرادية وليست قهرية، فنحن نُحسَب عبيدًا للذي نطيعه، إما للخطيئة، أو للبر: «أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ: إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ» (رو6: 16). فلما كنّا تحت نير الخطيئة – قبل صليب المسيح وقيامته- كنا عبيدًا للخطيئة، وأحرارًا من البر. أما بخلاص المسيح، صِرنا أحرارًا من الخطيئة، وعبيدًا للبر: «وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ… لأَنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ عَبِيدَ الْخَطِيَّةِ، كُنْتُمْ أَحْرَارًا مِنَ الْبِرِّ» (رو6: 18، 20).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
«هنا يُظهر عطيتين لله، التحرر من الخطية، والعبودية للبر، الأمر الذي هو أفضل من كل حرية عالمية زائفة، لأن ما صنعه الله يشبه شخصًا تعهد طفلًا يتيمًا قد انتقل من بلاد البربر إلى بلده، فهو لم يحرره من الأسر فقط، بل صار له أبًا معتنيا به، ورفعه إلى أعظم كرامة. هذا بالضبط ما حدث معنا. لأنه لم يحررنا فقط من الخطايا السالفة، بل قادنا إلى الحياة الملائكية»[1]
آثار الخطيئة على كيان الإنسان
يتكوَّن الإنسان من جزءٍ مادي ظاهر، أُخذ من تراب الأرض، وهو الجسد، وجزءٍ آخر غير مادي، كان نتيجة لنسمة من فم الله أعطت الجسد الماديّ حياة. وهذا الجزء غير المادي هو الروح. فالروح هي حياة الجسد؛ بها يتحرّك، ويتكلّم، ويظهر جماله وحيويته. لكن إن فارق الروح الجسد، صار الجسد كمدينةٍ مهجورةٍ وخربة، مصيرها التحلُّل والاندثار. أمّا الروح فتصير مقيدة بسلاسل الخطايا، تبحث عن جسدها التي كان تفرح فيه، وتتكلم فيه، وتُرتل ألحانها به. والجسد في القبر صار كآله موسيقية لا تُصدر أصواتًا، ففسدت وتحللت. فكان من آثار الخطيئة أنها فرقت الجسد عن الروح، وبذلك أنتجت موتًا، فلاقى الجسد مصيره من التحلل والفساد، ولاقت الروح مصيرها بأسرها في الجحيم.
يصف ميليتيوس أسقف ساردس هذه الآثار المدمرة للخطيئة فيقول:
«كانت الخطيئة تترك أثرًا في كل نفس (روح)، وكان يموتون كل من تركت فيهم أثرها. كهذا سقط كل إنسان تحت وطأة الخطيئة، وكل جسد تحت وطأة الموت، وكل نفس (روح) طردت من بيتها الجسدي. وما أخذ من الأرض (الجسد) تحلل فيها، وما وهب من الله (الروح) قُيِّد في الجحيم، وحدث انحلال لما كان من تناسق جميل، وتفكك الجسد الجميل»[2]
وبتشبيهات بليغة يشرح البابا ألكسندروس (19) حال الجسد عندما تفارقه روحه، فيقول:
«إن الموت مثل القائد الذي يستولي على مدينة ملكٍ ما؛ فإن أول ما يفعله هو القبض على ملك هذه المدينة لكي يحبسه؛ وهذا هو أول شيء يفعله الموت للنفس. أما الجسد فهو مثل السفينة التي لا يقودها رُبان؛ فعندما تتوقف النفس عن قيادته ينحل ويتفتت إلى أجزاء جزءً جزءً. فتتشتت أعضاءه في جبل الموتى.. ومثل السفينة التي غمرتها المياه، ولا يعود يدير دفتها أي رُبان. لأن النفس ذاتها هي التي تقود جسدها، مثل الملك الذي يحكم مدينته»[3]
ماذا صنع صليب المسيح في القبور التي حوت أجساد الموتى، وفي الجحيم الذي أسر الأرواح؟
في الوقت الذي لم يزل فيه جسد المسيح معلقًا على خشبة الصليب، تفتحت القبور وقام كثير من أجساد الموتى وتم رؤيتهم في المدينة العظيمة أورشليم، بعد قيامته. ويفسر البابا ألكسندروس قيامة أجساد الموتى القديسين بموت المسيح، بقوله: «لما رأى الموت الحياة خر عند قدميه»[4] ويكمل شرحه لما حدث بإنه عندما كان جسد المسيح في الأرض كان يحفظ الحياة للأجساد ليحررها من التحلل والفساد والموت، ولما كانت روحه البشرية في الجحيم، كانت تحرر أرواح الأبرار الصديقين، فيقول:
«سكب دمه الخاص على الأرض كي يحمي به الأرض ومن فيها، وظل جسده معلقًا على خشبة، لأجل جميع عناصر الأرض. ونزلت روحه إلى الجحيم وخلصت من كانوا فيها… سبى الجحيم وأعلن نفسه سيدًا عليه بالكلية. بجسده أقام الأموات الذين في الأرض، وروحه حررت النفوس التي كانت مقيدة في الجحيم… كسر أبواب الجحيم النحاس، وسحق متاريس الحديد، وأخذ النفوس التي كانت في الجحيم وحملها إلى أبيه. ولما اقتحم الرب الجحيم انتصر على الموت وربط العدو وقيده. ها هو الآن حرر النفوس من الجحيم وأقام الأجساد التي في الأرض. تأملوا في القوة القديرة والعجيبة التي كانت في جسده لما مات على خشبة»[5]
مزق الصك بصليبه
الديون تعتبر نوع من القيود، فالمديون عليه صك، إن لم يدفع المنصوص عليه في صك الدين سيتم حبسه بموجب هذا الصك. لكن بالصليب تم تمزيق الصك وسمره المسيح من الوسط، فرفع الذي كان ضدا لنا. «إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ،» (كو 2: 14). المسيح حرر ليس فقط النفوس المحبوسة، بل وحبس الطاغية الذي كان يحبس النفوس في الجحيم. السجان تم حبسه في السجن، وحتى أوراق القضية -صكوك الدين- قد تمزقت، تلك الصكوك التي كان يحبس بها الطاغية كل النفوس. يشرح القديس يوحنا ذهبي الفم التحرر من الدين بطريقة شيقة للغاية، فيقول:
«كأن شخصًا قد وضع أخر في السجن لأنه مديون له بعشرة فلسات. ليس ذلك فقط، بل وضع في السجن أيضًا زوجته وأولاده وخدامه، بسبب هذا الدين، ثم آتى شخص أخر ودفع، ليس فقط عشرة فلسات، بل ومنح آلاف العملات الذهبية، وقاد السجين إلى الحاشية الملكية، وإلى عرش السلطة العليا، وجعله شريكا في الكرامة السامية… فيصير من غير الممكن أن يتذكر بعد ذلك العشر فلسات التي اقترضها»[6]
العدو بالصليب لم يعد له سلطان علينا، لكننا نحن المسؤلون في أن نذهب نحن إليه ليجرحنا مرة أخرى بجراحاته المميتة.
قصتان للتحرير
- 1.خروج الشعب من أرض مصر بدم خروف الفصح، تلك القصة قد شرحها ميليتيوس أسقف ساردس، شرحًا وافيًا موضحًا فيها سر الفصح الذي تم في جسد الرب يسوع قائلًا:
«(6) إن ذبح الخروف (الفصح) ورش دمائه، وكتاب الناموس، كانت تحتوي المسيح يسوع، الذي به صار كل شيء في الناموس القديم، بل بالأحرى في الكلمة الجديد (العهد الجديد) … (11) هذا هو سر الفصح… عندما أراد (الله) أن يربط فرعون تحت السوط، وأن يحرر إسرائيل من السوط على يد موسى…. (12) قال: تأخذ حملًا تامًا لا عيب فيه وعند المساء تذبحونه مع بني إسرائيل، وتأكلونه بعجلة، ولا تكسروا أحد عظامه… (14) خذوا من الدم الخروف وأدهنوا بيوتكم الخارجية… كي يعبر عنكم الملاك، لأني هأنذا ضارب مصر، وفي ليلة واحدة ستصير الماشية والإنسان بلا أولاد (أبكار)… (16) وبينما كان… يؤكل الفصح… ويتم السر… جاء الملاك ليضرب مصر… التي لم تدخل في السر، ولم تشترك في الفصح… (17) هجم (الملاك) على مصر، وبالأحزان أخضع فرعون الغليظ الرقبة، ملبسًا إياه، لا ثوبًا رماديًا، ولا معطفًا ممزقًا، بل مصر الممزقة كليًا، والباكية على أبكارها… (20) كانت مصر تحيط بفرعون؛ وكأنها ثوب حزن. ومثل ذاك الثوب كان منسوجًا لجسد الطاغية… (26) في لحظة واحدة هلك بكر ذرية المصريين… لا بكر البشر فقط بل بكر الحيوانات غير الناطقة أيضًا … (27) كان يسمع… عويل البهائم على رضعانها… (28) وصوت عويل… البشر على الأموات الأبكار… (30) تلك النكبة كانت تسود مصر… أما إسرائيل فكان مصانًا بدم الخروف… (31) يا له من سر عجيب لا ينطق به… موت الخروف (كان) حياةً للشعب … (33) هذا سر الرب يتم في الخروف … (56) تم سر الفصح في جسد الرب … (58) سر الرب، فبعد ما صوِّر منذ عهد بعيد.. أُكمل اليوم… سر الرب هو جديد وقديم؛ قديم بحسب الناموس، وجديد بحسب النعمة … (59) إن أردت أن ترى سر الرب رؤى العين (فانظر في الأمثلة) انظر إلى هابيل الذي قتل بطريقة مماثلة، وإلى أسحق الذي ربط بطريقة مشابهة، وإلى يوسف الذي بيع هكذا، وإلى موسى الذي خُبئ كذلك، وإلى داود الذي اضطهد أيضًا وإلى الأنبياء الذين تألموا من أجل المسيح… (67) (سر الفصح هو المسيح، لأنه هو الذي) ذبح كخروف، فدانا من عبودية العالم، كما فدانا من أرض مصر. حررنا من عبودية ابليس، كما حررنا من يد فرعون، ختم نفوستنا بروحه الخاص، وأعضاء جسدنا بدمه الخاص. (68) هذا هو الذي ألبس الموت العار كما فعل بفرعون، أجلس الشيطان في حداد. (69) هذا هو فصحنا… هو الذي قُتل في هابيل، ورُبط في أسحق، وتغرب في يعقوب، وبيع في يوسف، وخبئ في موسى وذبح في الحمل، وأضطهد في داود، وأهين في الأنبياء»[7]
- 2. رجوع الشعب من سبي بابل بهزيمة كورش لملك بابل اش 14
«وَيَكُونُ فِي يَوْمٍ يُرِيحُكَ الرَّبُّ مِنْ تَعَبِكَ وَمِنِ انْزِعَاجِكَ، وَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الَّتِي اسْتُعْبِدْتَ بِهَا، … 5 قَدْ كَسَّرَ الرَّبُّ عَصَا الأَشْرَارِ، قَضِيبَ الْمُتَسَلِّطِينَ. 6 الضَّارِبُ الشُّعُوبَ بِسَخَطٍ، ضَرْبَةً بِلاَ فُتُورٍ…. اَلْهَاوِيَةُ مِنْ أَسْفَلُ مُهْتَزَّةٌ لَكَ، لاسْتِقْبَالِ قُدُومِكَ، مُنْهِضَةٌ لَكَ الأَخْيِلَةَ، جَمِيعَ عُظَمَاءِ الأَرْضِ. أَقَامَتْ كُلَّ مُلُوكِ الأُمَمِ عَنْ كَرَاسِيِّهِمْ. 10 كُلُّهُمْ يُجِيبُونَ وَيَقُولُونَ لَكَ: أَأَنْتَ أَيْضًا قَدْ ضَعُفْتَ نَظِيرَنَا وَصِرْتَ مِثْلَنَا؟ 11 أُهْبِطَ إِلَى الْهَاوِيَةِ فَخْرُكَ،» (اش14: 3، 5-6، 9-11)
كان ملك بابل يمثل الشيطان؛ وكما قاد ملك بابل شعب الله إلى السبي والعبودية القاسية، سيأتي كورش ملك فارس وينتصر على ملك بابل، ويطلق المسبيين أحرارًا، فسفر إشعياء يدعو «كورش» مسيح. «هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا» (إش 45: 1). يستهزء السفر بملك بابل في سقوطه، بإنه صار مصيره كمصير الذين يأسرهم وسيجنهم، فقد سُجن هو أيضًا في الهاوية التي كان قد أعدها ليحبس فيها قتلاه. هذا كان مثالًا لسر الصليب. الذي يفضح إبليس جهارًا ويظفر به في الصليب.
المسيح الذي نزل إلى الجحيم يمكن أن يدخل إلى عمق جحيم القلب وينيره.
يستنبط القديس أنبا مقار في العظة (11) من عظاته الخمسين؛ إن المسيح الذي نزل إلى ظلمة الجحيم، وهز أساساته وزعزعه، وأناره، يمكن أن يدخل إلى عمق جحيم قلب الإنسان الغارق في الخطايا، ليحرره من قيود الشر، وينيره ويقيمه من ظلمته القاسية، فيقول:
«إن قلبك ذاته هو قبر ومدفن وحينما يختبيء رئيس الشر وجنوده كامنين هناك (في القلب)، ويصنعون فيه طرقًا ومسالكًا، تسير فيها قوات الشيطان وتدخل إلى عقلك وأفكارك، ألا تكون أنت في هذه الحالة جحيمًا ومدفنًا وقبرًا، إنسانًا ميتًا من جهة الله؟
…. فإن الرب يأتي إلى النفوس التي تطلبه ويدخل إلى عمق جحيم القلب، وهناك يصدر أمره للموت قائلاً: أخرج النفوس المحبوسة التي تطلبني، التي تحتجزها أنت بالقوة وهكذا يكسر الرب الحجارة الثقيلة الموضوعة على النفس، ويفتح القبور ويقيم الإنسان الذي كان مائتًا بالحقيقة ويطلق النفس المحبوسة من السجن المظلم.
ومثل إنسان مقيَّد اليدين والرجلين بالسلاسل، ثم يأتيه شخصٍ ما يفك قيوده ويجعله ينطلق حرًا، هكذا الرب يحلّ النفس المقيَّدة بأغلال الموت من قيودها ويطلقها، ويطلق العقل حرًا ليحلق براحه وبدون عائق في الجو الإلهي. ولو افترضنا أن إنسانًا غرق في وسط نهر في شدة فيضانه وتغمره المياه فيصير بلا حياة وتحيط به الحيوانات المائية المخيفة.
فإذا أراد إنسان آخر أن ينقذه وهو لا يعرف السباحة فهو أيضًا يهلك ويغرق معه، وإنه لأمر واضح أنه يلزم وجود سبَّاح ماهر، وخبير لينزل إلى عمق المياه ويغطس حتى يرفع الإنسان الغارق وينقذه من وسط الحيوانات، فالماء نفسه حينما ينزل إليه إنسان ماهر في السباحة فإنه يساعد مثل هذا الإنسان ويحمله إلى السطح.
وبنفس الطريقة فإن النفس التي غطست وغرقت في هاوية الظلمة وعمق الموت، تنفصل عن الله في صحبة الحيوانات المخيفة، (هذه النفس) من الذي يستطيع أن ينزل إلى الأماكن المخيفة وإلى أعماق الجحيم والموت لينقذها إلاَّ ذلك الخبير والصانع العظيم الذي خلق النفس والجسد. وهو بشخصه يدخل إلى الناحيتين، إلى عمق الجحيم وإلى عمق القلب حيث يكون الموت ممسكًا بالنفس وأفكارها ويخرج آدم المائت من الهاوية المظلمة. إذن فحتى الموت نفسه- عن طريق التمرن والخبرة- يصير مساعدًا للإنسان، كما يفعل الماء مع السباح».[8]
آلات بر وآلا أثم
لكي لا يعود الإنسان مرة أخرى لعبودية الخطيئة القاتلة، لا بد أن تستخدم جميع إمكانياته وملكاته لخدمة البر والقداسة، لا لخدمة الشر والنجاسة. «وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرّ للهِ.» (رو 6: 13). ويعتبر القديس يوحنا ذهبي الفم أن أعضاء الإنسان يمكن أن تكون كالأسحلة، يمكن أن تحمي الناس وهي هي التي يمكن أن تستخدم في إهلاك الناس، لكن العبرة في مَنْ يستخدم السلاح، فيقول:
«الجسد يوجد بين حالة الأثم والبر، مثلما يحدث بالنسبة للآلات، وارتكاب الأثم أو ممارسة البر يتوقف على من يستخدم الآلات. كما يحدث مع الجندي الذي يحارب من أجل وطنه، والسارق الذي يتسلح ليهاجم المواطنين، الأثنان يتحصنان بنفس الأسلحة. إذن فالجريمة ليست عملًا يتعلق بنوع السلاح المستخدم، بل هي مسئولية أولئك الذين يستخدمون تلك الأسلحة، لكي يفعلوا الشر. وهذا يمكن أن نقوله بالطبع في حالة الجسد، حيث يصير فعل الأثم أو فعل البر رهنًا بموقف النفس، وهذا ليس له علاقة بطبيعتها (أي أنها تفعل الشر لأن طبيعتها شريرة)»[9]
الغرائز يمكن أن تكون آلات بر وهي هي يمكن أن تكون آلات أثم
مبدأ: اذا هدأ عشق المسيح في القلب، اطلّْت الغريزة بوجهها القبيح مطالبة بما لها
تبدو الغريزة وكأنها اهم معطل للحياة بحسب التقوى والفضيلة. لكن السؤال الآن؛ ما هي الغريزة؟
الغرائز مخلوقة أصلًا لخير لإنسان، ليحافظ بها على حياته ويتسلط على بقية المخلوقات والحيوانات. أي إنها بمثابة أسحلة يمكن أن يستخدمها الإنسان في الأثم أو في البر. استخدام الغرائز كآلات أثم يردينا أرضًا فنعيش كجسدانيين او بالأحرى كحيوانات. الماكر المخادع الغاش يحكمون عليه بأنه «ثعلب»، والخائن الذي يسلب على غرة يسمونه «ذئب»، واللئيم الذي يتحين الفرص ليضر غيره «ثُعبان»، والمنافق والمتلون «حرباء». لكن الغرائز يمكن أن تكون آلات بر، واستخدامها في البر يرفعنا إلى فوق، فتكون الغريزة في خدمة حياة الصلاح والتقوى، فنعيش كروحيين.
أمثلة:
- 1.غريزة العراك
غريزة العراك وضعت في الأصل في الإنسان ليحفظ حياته من الحيوانات المفترسة، وانحرافها يؤدي إلى عراك الإنسان مع أخيه الإنسان. أما تحولها فيستخدمها الإنسان في الحرب ضد الأعداء غير المنظورين لحفظ الحياة الأبدية. كعراك يعقوب لأخذ البركة «لا أطلقك إن لم تباركني»
- 2. الغريزة الجنسية
تتحول من الجري وراء اشباع شهوة الجنس إلى رغبة ملحة للاتحاد بالمسيح في زيجة فائقة للعقل. لذلك استخدم سفر النشيد ألفاظًا زيجية. كما تتحول حالة الحب بين الزوجين لتكون على صورة حب المسيح للكنيسة، فتأخذ الزيجة قوتها من نبع قوة لا ينضب
- 3. غريزة الانتماء
تتحول إلى أشواق الانضمام إلى سحابة الشهود، وجماعة الأبرار المكملين التي هي الكنيسة.
- 4. غريزة محبة النصيب الأكبر
قد تدفع هذه الغريزة إلى أن يسرق الإنسان إنسان مثله، أو أن يظلم أخيه. لكنها يمكن أن تكون آلة بر يسرق بها الإنسان ملكوت الله كاللص اليمين: «ملكوت السموات يغصب والغاصبون يخطفونه» (مت 11: 12). وتتحول محبة النصيب الأكبر في الأرضيات إلى محبة النصيب الأكبر في السماويات وحياة الدهر الأتي: «فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ» (لو16: 8-9). تحويل الطمع من رغبة في زيادة النصيب الأرضي إلى زيادة النصيب السماوي «المظال الأبدية»
يشرح القديس يوحنا ذهبي الفم أن الملك لا يكون مجده في الملابس الملوكية والتاج الملكي، بل في كثرة الخدام والجنود الأوفياء المحيطين به ويطيعونه. فالمؤمن المسيحي بعد أن توّجَ المسيح ملكًا؛ فلتكن جميع حواسه، وأعضاءه، وأفكار قلبه، في خدمته للحفاظ على هذا الملك. فتكون هذه الملكات بمثابة آلات بر لحمايته، أما إن كانت هذه الملكات آلات أثم، فلن يصير للملابس الملكية والتاج أية قيمة، لأن مُلكه في هذه الحالة معرض للضياع. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
«ما هي المنفعة عندما يرتدي الملك الأرجوان، ويمتلك الأسلحة، دون أن يكون لديه مجموعات حماية تابعة له؟ … هكذا المسيحي فهو لا ينتفع شيئًا لوكان لديه إيمانًا ولديه العطية التي نالها في المعمودية، دون أن يكون محميًا في مواجهة الشهوات (أي عندما يكون لديه عبيد أوفياء غير خائنين يحاربون معه؛ وهذا معنى أن نكون عبيد للبر أن تكون أعضائنا تابعة وغير خائنة للنعمة التي ملك علينا). كما أن الملك الذي يرتدي التاج والأرجوان، ليس فقط لن يربح شيئًا من وراء هذا الملبس فيما يختص بالكرامة التي نالها، لكنه يسيء لهذا الملبس إذا كان سلوكه مخزيًا. هكذا فإن المؤمن الذي يحيا حياة فاسدة، ليس فقط لن يكون موضع احترام، بسبب هذه الحياة الفاسدة، بل سيصير محطًا للسخرية بدرجة كبيرة»[10]
القس فيكتور جرجس
مدرسة راكوتي، 13 أبريل 2025م
[1] يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم يعقوب (القاهرة: مؤسسة القديس أنطونيوس، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013)، 276.
[2] عظتان عن آلام الرب: للقديسين ميليتيوس أسقف ساردس والبابا ألكسندروس، ترجمة: القس لوقا يوسف رزق (القاهرة: مدرسة الإسكندرية، 2017)، 44.
[3] المرجع السابق، 84.
[4] المرجع السابق، 99.
[5] المرجع السابق، 101-102.
[6] يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، 250.
[7] عظتان عن آلام الرب، 22-50.
[8] عظات القديس مقاريوس الكبير، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2014)، 110- 111.
[9] . القديس يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، 271.
[10] المرجع السابق، 277- 278.