fbpx
Search
Close this search box.

بخصوص الأشياء التي ستتغير

بخصوص الأشياء التي ستتغير[1]

(هو زمان المسرة يا الله مز 68: 14 قبطي)

بعض الآيات من مزمور 69 (68 بحسب السبعينية والقبطية)

المزمور الثامن والستُّونَ

إلى النهاية، على الذين يتغيَّرونَ؛ لداود

«أَحْيِني، يا الله، فإنَّ المياه قد دخلت إلى نفسى. تورّطتُ في حَمأة الموتِ، وليس استطاعةٌ بَعْدُ؛ ذهبت إلى أعماق البحر، والعاصفُ غَرَّقَني. عَيِيتُ مِمَّا أصرخُ، وبُحْ حلقي، ذبُلَتْ عيناي مِمَّا أَتَرجَّى إِلَهَى. كثر أكثر من شَعْرِ رأسي الذين يُبغضونَنِي مَجَّاناً؛ اِعتَزَّ أعدائي الذين يطردونَنِي ظُلماً؛ كنتُ أَرُدُّ حينئذٍ ما لم أختلسْهُ. يا الله، أنت عرفت جهالاتي، وتضجيعاتِي لَمْ تُخْفَ عَنْكَ. لا يخز بي الذين ينتظرونَكَ يا ربُّ، ربَّ القوَّاتِ؛ ولا يُعيَّروا من أجلى الذين يلتمسونك، يا إله إسرائيل. لأنى من أجلك قبلتُ العار، وغَطَّى الخِزْي وَجْهى. صرت أجنبياً عند إخوتي، وغريباً عند بني أمي؛ ۱۰ لأنَّ غَيْرَةَ بيتِكَ أكلتني، وتعييراتُ مُعيِّريك وَقَعَتْ علىَّ. …. ١٤ وأنا أصعدت صلاتي إليك، يا ربُّ، زمان المسرة هو، يا الله؛ بكثرة رحمتك إسْتَجِبْ لي، يحق خلاصك…. ۲۱ توقعت نفسى عاراً وشقاء ؛ ومُجازاةً وشكاً ؛ وانتظرتُ مَنْ يَحزِنُ معي، فلم يُوْجَدْ ومَنْ يُعزّينِي فلم أجده ۲۲ جعلوا في طعامي مرارةً ، وفى عطشى سقوني   …. ٢٦ لتصر دارُهُم خراباً ، وفى مساكنهم لا يَكُنْ ساكن ؛ ۲۷ لأنهم طردوا الذي ضَرَبْتَه أنتَ وزادوا عليَّ أوجاع جراحاتي….»[2]

عنوان المزمور بحسب السبعينية والقبطية: إلى الغاية أو إلى النهاية، بخصوص الأشياء التي ستتغير، مزمور لداود

من المعروف أن سفر المزامير هو أكثر أسفار العهد القديم التي اقتبس منها المسيح والرسل في العهد الجديد ويأتي بعده سفر إشعياء. فالمسيح هو ابن داود بحسب الجسد وهو أيضًا داود أي المسيا الحقيقي الموعود به من نسل داود. ولكنه أيضًا المخلص المتألم بحسب الكثير من المزامير التي تحدثت عن آلام المسيح وقيامته. فالمسيح القائم حينما ظهر للأحد عشر وبدأ يفتح ذهنهم ليفهموا الكتب، كان يشرح لهم الأمور المختصة به   وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ». 45 حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ.» لو 24: 44 – 45.

إن مزمور 69 (68 سبعينية وقبطية) يتضمن العديد من تفاصيل آلام المسيح ؛ لذا تصليه الكنيسة في الساعة الأولى من ليلة الخميس الكبير: «أحيني يا الله، فإن المياه قد بلغت إلى نفسي. وانظر إليَّ ككثرة رأفاتك.» (مز 68: 1، 14 قبطي) وأيضًا في الساعة السادسة من ليلة الجمعة العظيمة: «انتظرت مَنْ يحزن معي فلم يكن، وَمَنْ يعزيني فلم أجده.» (مز 68: 18 قبطي) وتقتبسه الكنيسة في الساعة التاسعة من يوم الجمعة العظيمة: «أحيني يا الله لأن المياه دخلت إلى نفسي…. جعلوا في طعامي مرارةً وفي عطشي سقوني خلًا.» (مز 68 س: 1، 22) والمزمور نفسه (مز 68: 10ب. س) يقتبسه القديس بولس الرسول في رسالته إلى روميه 15: 3 «أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ، بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ» والقديس يوحنا يقتبس (مز 68: 10أ. س)  في يو 2: 17«فَتَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي»، وَيقتبس أيضًا «أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ.» (مز 69: 4 بحسب العبري) «لكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ.» يو 15: 25 والقديس بطرس يستشهد به عن يهوذا الإسخريوطي وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ قَامَ بُطْرُسُ فِي وَسْطِ التَّلاَمِيذِ، وَكَانَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ مَعًا نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ. فَقَالَ: 16 «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلًا لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، 17 إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ. 18 فَإِنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلًا مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ، وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ، فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. 19 وَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى دُعِيَ ذلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقَلْ دَمَا» أَيْ: حَقْلَ دَمٍ. 20 لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَابًا وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ [مز 68: 26 قبطي]. وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ..

والقديس أوغسطينوس له عظتان رائعتان على هذا المزمور ولكن لضيق الوقت سنكتفي بإن نقرأ كلماته التي عَلَّق بها على عنوان المزمور:

إليكم عنوان المزمور: «للغاية، للذين سوف يتغيرون؛ مزمور لداود» (68: 1). والمقصود بالتغيير، هنا، التغيير إلى الأحسن؛ فالتغيير إما يكون إلى الأحسن أو إلى الأسوأ. فآدم وحواء تغيرا إلى الأسوأ؛ والذين تحولوا عن آدم وحواء ليلتحقوا بالمسيح، تغيروا إلى الأحسن…. إذًا، المزمور موجه للذين سيتغيرون. وهل يتغيرون بغير آلام المسيح؟ والحال أن كلمة «فصح» تعني «العبور». وهي كلمة عبرية وليست يونانية…. وهذا المعنى يلمح إليه يوحنا في معرض كلامه عن دنوّ الآلام، وعن احتفال الرب بالعشاء السري وتحويله الخبز والخمر إلى سر جسده ودمه المقدس، فيقول: «لمّا كان يسوع يعلم أن ساعته قد أتت ليعبر من هذا العالم إلى الآب» (يوحنا 13: 1)، وبذلك عبَّر عن الفصح. ولو لم يعبر إلى الآب ذاك الذي جاء إلى الأرض لأجلنا، كيف كنا لنعبر من هذا العالم إلى الآب، نحن الذين لم ننزل إلى هذه الأرض لنرفع غيرنا، بل هَوَينا إليها؟ أمّا هو فلم يهوِ إلى الأرض، بل نزل إليها لكي يرفع الإنسان الذي هوى. إذًا، سوف نعبر معه من هذا العالم إلى الآب، من هذا العالم إلى ملكوت السموات، من هذه الحياة المائتة إلى الحياة الخالدة، من الحياة الأرضية إلى الحياة السماوية، من الحياة الفاسدة إلى حياةٍ بغير فساد، من الضيقات والشدائد إلى الأمان الأبدي. لهذا عُنوِنَ المزمور: «للذين سوف يتغيرون». فلنعِ أن علة تغيُّرِنا هي آلام الرب …. ولننُحْ مع المزمور…. فنستحق أن يتحقق فينا عنوان المزمور: «للذين سوف يتغيرون».[3]

        والآن لنتأمل أيها الأحباء في الأشياء التي ستتغير بآلام المسيح، وكذلك في التغيير الذي سنحوزه نحن بسبب آلام المسيح ولنمتلئ بالرجاء بسبب آلام الرب عنا ولأجلنا

  1. إبطال الخطية

«وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ.» عب 9: 26

القديس بولس الرسول يعتبر أن سبب مجيء الرب في الجسد هو لكي يبطل الخطية بذبيحة نفسه. ولكن لنسأل: ما هي الخطية؟ وكيف يبطلها المسيح بذبيحة نفسه؟

الخطية كما جاءت في هذه الآية هي ترجمة للكلمة اليونانية ἁμαρτίας  ها مارتياس  والتي تعني بحسب القواميس : أن تفقد العلامة أو ألا تصيب الهدف[4]  ويفهمه كثير من اللاهوتيين إنه فقدان الخاطئ للقصد الإلهي من خلقته وهو أن ينعم ويسعد بالشركة الإلهية ويصير متحدًا بالله وممتلئًا من المجد الإلهي وأن يكون سيدًا للخليقة وكاهنًا لها يقربها إلى الله، وَ أيضًا أن يمضي في طريق نموه حتى يصل أن يكون مشابهًا للصورة الإلهية التي خُلق عليها. ولكن يمكننا فهم المزيد من معنى الخطية لو إننا نظرنا إلى تركيب الكلمة؛ فهي من مقطعين: الأول هو «ἁ » والذي يعني «لا» أو « Not » بالإنجليزية. والثاني مشتق من: « μέρος » ميروس ، والذي يعني نصيب أو مشاركة. وبذلك يكتمل فهمنا لمعنى الخطية، وهو أنه لا نصيب لنا لأننا لم نصب الهدف.[5] الخطية هي الحرمان من نصيبنا في الله لإننا حينما نُستعبد للخطية لا نعود قادرين على البقاء في الشركة الإلهية ولا مشابهة الصورة الإلهية ولا نعود سيدًا للخليقة بل عبيدًا للخطية والشيطان والأشياء والشهوات.

مَنْ منا لم يَذُق مرارة الخطية أيًّا كان اسمها؛ خطايا النجاسة مثل الزنا وإدمان الإباحية والعين غير الطاهرة والجسد الدنس، خطية الطمع ومحبة المال والنصيب الأكبر، الشر الأول الذي هو الكبرياء وحب العظمة، خطية التذمر، وخطية الغضب والغيرة والحسد والبغضة، إدمان الخمر والمخدرات، وغيرها…. كل هذه وغيرها اِستوطنت طبيعتنا البشرية وجسدنا لآلاف السنين وجعلت بشريتنا الساقطة محرومةً من نصيبها في الله لأنها لم تصب الهدف. كُل واحدٍ منا له قصص مأساوية مع خطية أو أكثر قد حرمته من التمتع بنصيبه في مجد الرب وفي مماثلته لصورته الإلهية. في الحقيقة لولا عمل المسيح الخلاصي لكنا أقرب مشابهة للشرير من مشابهتنا لله الذي خلقنا.

ما الذي تغير؟ كما يبشرنا المزمور؟

الذي تغير هو أن المسيح قد أبطل الخطية بذبيحة جسده. وما معنى إنه أبطلها؟ الكلمة العربية هي ترجمة للكلمة اليونانية ἀθέτησιν آثي تيسين والتي تتكون من مقطعين أيضًا؛ الأول «ἀ » والذي سبق وذكرنا إنه يعني « لا » ، والثاني مشتق من الكلمة اليونانية « θετέω » والتي تعني «مكان».[6] إذًا المعنى يتضح الآن، وهو أن المسيح بذبيحة نفسه ألغى مكان الخطية من حياتنا ومن الطبيعة البشرية! هلليلويا! إنه زمان المسرة يا الله! هذه هي الأشياء التي ستتغير. الخطية لم يعد لها مكان. لقد تحقق فينا قول بولس الرسول: «فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ» رو 6: 14. أي أن الخطية لن تكون ربكم بعد اليوم وليس لها أن تتدعي ملكيتها لكم أو أن تمارس نوعًا من السيادة كما لو إننا لها.[7]  

كيف تم هذا؟

لقد كانت حياة المسيح بالجسد مصيبةً للهدف تمامًا؛ ولها كمال النصيب الإلهي والمطابقة الكاملة للصورة الإلهية؛ فقد حفظ الوصية التي قبلها من الآب ولم يوجد فيه خطية وكان بلا لوم وحين صُلبَ حمل خطايانا نحن في جسده على الخشبة، وحين سُفك دمه ونُضِح علينا، كانت حياته المقدسة هي التي تُسكب وتُنضَح علينا، فتبطل خطيئتنا وتكسبنا نجاحها في أن تصيب الهدف وأن نستعيد نصيبنا في الرب بفضل هذا الذي لطالما قال لأبيه: «كل ما لي هو لك وكل ما لك هو لي».

لقد كان المسيح الذبيح يزيح الخطيئة ولا يبقي لها مكان في الطبيعة البشرية، في كل ما كان يقول أو يفعل؛ فعوض البشر الذين ينحازون لمشيئتهم بدلًا من مشيئة الله، نجد المسيح ينحاز لمشيئة الآب وإرادته لا مشيئته وإرادته. وبدلًا من كبرياء البشر وتطلعهم أن يكونوا آلهة بمعزل عن الله الحقيقي، ردَّ المسيح ما لم يختلسه كما قال المزمور (68: 5 قبطي) فصار عبدًا وهو الله! وأزاح المسيح النجاسة بسيرتها المقدسة الطاهرة التي لم تشوبها شائبة. وأزاح البغضة بمحبته للذين عادوه وصلبوه، وأزاح حب العظمة لما قبل العار والخزي واللطمات والجلدات من الكارهين وجلس يغسل أرجل تلاميذه وهو سيدهم ومعلمهم.

هذه القداسة يا أحباء الله، هذه الحياة البارة يا أولاد الله، سكبها ابن الله بسكبه دمه لتصير لنا نصيبًا، لقد أزاح الخطيئة عن الطبيعة البشرية في نفسه[8] أولًا لكي يزيحها في كل الذين يؤمنون به ويتبعونه ويجعلونه ملكًا لحياتهم.

يقول القديس كيرلس الكبير في معرض شرحه لشريعة التيسين في يوم الكفارة: «ولكن كلمة الله الآب إذ هو غني في لطفه ومحبته للبشر صار جسدًا أي إنسانًا…. وجعل حياته على سبيل المبادلة عن حياة الكل، فقد مات واحد عن الجميع لكي يعيش الجميع لله مقدسين ومحيين وحاصلين على الحياة بدمه. متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. كما يقول البشير المطوب يوحنا ” دم يسوع المسيح يطهرنا من كل خطية”.»[9]

إن توبتنا ودموعنا واعترافنا بخطايانا في كل يوم، هو دليل عن هذه الإزاحة للخطية التي صارت بصليب المسيح. في كل يوم هناك إزاحة لكل شر وشبه شر نراه يتحرك في نفوسنا وأجسادنا وأفكارنا. هذه هي الأمور التي ستتغير كما يقول عنوان المزمور. وهؤلاء هم الذين يتغيرون. كما نصلي في القسمة المنسوبة للقديس كيرلس الكبير: «وعند إصعاد الذبيحة على مذبحك تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك.»

2. إبطال الموت والخوف من الموت

جميع البشر يخافون الموت بدرجات متفاوتة ولا يريدونه وهذا لأن الموت يلاشينا أو هكذا كان الوضع قبل موته (موت الموت بموت المسيح). كان الموت يعني العدم وكان يغلف كل ما هو مسر في حياة البشر. كان يبدو كموجه بحر عاتية تزيل ما رسوم الأطفال الجميلة على رمال الشاطئ. لكن الرب يسوع حينما قَبَل الموت بالجسد، أمات الموت؛ إذ اِستنفذ في جسده حكم الموت الصادر على البشر، فصار موتنا الحالي بل قوة أو فاعلية حقيقية؛ لم يعد له قوة أو سلطان أن يلاشينا أو يعود بنا إلى العدم. بل صار معبرنا إلى السماء، وهذا هو الشيء الذي تغير أيضًا بآلام الرب، وتغير كثيرٌ من البشر ولم يعودوا يرتعبوا من الموت.

لقد حول الرب خوفنا من الموت واضطرابنا في طبيعته البشرية إلى شجاعة كقول القديس كيرلس الكبير،[10] وبرهن القديس أثناسيوس الرسولي على ألوهية المسيح والتأثير العظيم لصليب المسيح،[11] بقوله:

…. فهل هناك من كان موته يطرد الشياطين؟ أو من هو الذي ارتاعت الشياطين من موته كما فعلت عند موت المسيح؟ فحيث سُمِّيَّ اسم المخلص هناك يُطرد كلُ شيطان. ومن الذي حرر البشر من شهواتهم النفسانية حتى صار الزناة عفيفين والقتلة لا يعودون يحملون السيف والذين كان يتملكهم الجبن قبلًا صاروا شجعانًا؟ …. ما الذي أعطى للبشر مثل هذا اليقين بالخلود كما فعل صليب المسيح وقيامة جسده؟ …. وهكذا فإن تلاميذ المسيح يضبطون أنفسهم في شبابهم ويحتملون التجارب ويثابرون في الأتعاب وحينما يُشتمون يصبرون، وإن سُلبوا لا يبالون. والأمر المدهش أكثر أنهم يحتقرون الموت نفسه ويصيرون شهداء للمسيح.[12]

خَصَّصَ القديس أثناسيوس الفصول 27 و28 و29 للحديث عن هزيمة الموت أمام المؤمنين بالمسيح بسببٍ من صليب المسيح وقيامته. وكيف أصبحوا يتحدون الموت والعذابات ولا يخافوا من النزول إلى القبور بل يسخرون من الموت مرددين ما قيل قديمًا «أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية؟» هو 13: 14.

لنعود إلى القديس بولس الرسول وماذا قال عن إبادة الموت بصليب المسيح:

-« فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، 15 وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ­ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ­ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ.» عب 2: 14 – 15.

-«وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ.» 2 تي 2: 10.

وَالفعلان «يبيد وَأبطل» هنا هما ترجمة للفعل اليونانيκαταργέω والتي تتكون من مقطعين؛ الأول: κατα ويعني النزول إلى نقطة معينة وهو بذلك يشدد على الفعل الأصلي وهو ἀργέω أي بلا فاعلية أو خامل ولا تأثير له.[13]

هذه هي الأشياء التي ستتغير وهؤلاء هم الذين يتغيرون بقوة آلام الرب! العهد الجديد يرسم لنا صورة جميلة وواضحة عن هذا التغيير؛ ففي إنجيل القديس مرقس الرسول وَالذي قرأته لنا الكنيسة في الساعة السادسة من ليلة الإثنين: وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: 33 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، 34 فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» مر 10: 32 – 34.

أمام تحدي الموت وخوف الموت، تَقَدَّمَ المسيح وحده شجاعًا مثبتًا وجهه ناحية أورشليم كما لو كان حجر صوان (راجع لو 9: 51؛ إش 50: 7 سبعينية) أما التلاميذ ونحن، فَكُتِبَ عنَّا “وفيما هم يتبعون كانوا خائفين” لذا  “قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَلكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيرًا».” (يو 13: 36). فيما بعد الصليب والقيامة وبعدما سكنَ في التلاميذ والمؤمنين روحَ الذي أقام يسوع من الأموات رو 8: 11 صاروا يواجهون الموت وهما مطمئنين (راجع نوم القديس بطرس في السجن ليلة تقديمه للموت أع 12: 1 – 6).

علينا أن نأتي بخوفنا من الموت إلى المسيح المصلوب وغالب الموت ونصلي إليه أن يهزمه فينا، كما هزمه في آلاف المؤمنين عبر العصور. علينا أن نأتي بمخاوفنا ونقول له: يا رب هذه هي الأشياء التي نريد أن تتغير فينا بآلامك المحيية. نأتي إليك يا رب خائفين ونطلب إليك أن تكون آلامك هي للذين سيتغيرون!

3. طبيعتنا ومحبتنا وعبادتنا

ما أجمل نبوة صفنيا النبي التي تضعها أمامنا الكنيسة في سبت لعازر «اِفرحي جدًا يا ابنة صهيون، اِكرزي يا ابنة أورشليم. اِبتهجي وتهللي من كل قلبك، يا ابنة أورشليم. قد نزع الرب آثامك، قد فداكِ من يد أعدائك. ملك إسرائيل في وسطكِ…. الرب إلهكِ فيكِ، جبارٌ سيخلصكِ، يفيض عليكِ ابتهاجًا، وَيُجددكِ في محبته، …. ويلٌ! مَنْ أخذَ عليها قباحةً؟ هاءنذا [هأنذا] أعملُ فيكِ من أجلكِ.[14] (صف 3: 14 – 19 سبعينية).

من أروع الأمور التي ستتغير في حياتنا بآلام الرب هي طبيعتنا الفاترة الباردة في محبتها للرب وللبشر وعبادتنا التي قد تكون في أحيانٍ كثيرة ميتة أو للناس وليست لله. إن التلامس العميق مع آلام الرب الطواعية من أجلنا والتي دافعها محبته لنا، قادرة أن تشعل فينا الحب الإلهي، بحسب تعبير صفنيا النبي “يجددنا في محبته”. لقد جاء الرب ليلقي نارًا على الأرض لتدفئ القلوب الباردة من الخطية والإثم.

إن آلام الرب كانت نارًا نزلت على مذابح قلوب المتطلعين إليه فصاروا عاشقين، فصعدت على الفور ذبائح تكريس الحياة للرب والخدمة البطولية وانتشرت ظاهرة سكب قوارير الطيب على أعلى مستوى. في النشيد الثاني للعبد المتألم والمذكور في إشعياء 49: 1 – 7، يتكلم المسيح عن علاقته الآب السماوي، فيقول: «جعلني كسهمٍ مختار، وفي كنانته أخفاني.» آية 2 (س)، والعلامة أوريجانوس هذا السهم المختار هو الذي جعل العروس في سفر النشيد تقول: إني جُرحت حبًا (نش 2: 5):

إن كان هناك أي إنسان قد اشتعل بالمحبة الثابتة لله الكلمة؛ إن كان هناك شخص، كما يقول النبي، قد جُرح بحلاوة هذا السهم المختار؛ إن كان هناك (أحدٌ) قد طُعنَ مرارًا وتكرارًا بالحرية المحبوبة لمعرفته، حتى يتوق إليه بالنهار والليل، ولا يقدر أن يتكلم عن أي شيء غيره، ويرفض أن تسمع أي شيء سواه، ويعرف كيف لا تفكر إلا فيه، ولا يميل برغبةٍ أو احتياج أو رجاء إلا فيه وحده؛ فإن نفسه هي التي استحقت أن تقول: إني جُرحتُ حُبًّا (نش 2: 5)، وقد نالت هذا الجرح ممن قال عنه النبي إشعياء: «جعلني كسهم مختار، وفي كنانته أخفاني».[15]

لِنستمع لكلمات العاشقين لعلها تُلهب قلبنا بحب من تألم عنَّا:

  • [يا أولادي المحبوبين عندي، أنا أطلب إليكم بمحبتي فيكم أن تتقدموا للرب بكل قلوبكم وبكل نفوسكم، وتعلموا أن كل أعمالنا التي نقدمها للرب –بالنعمة التي أعطاها لنا – ليست تقوم مقابل تواضعه عنَّا…. ما هو الذي نعطيه للرب عوضًا عن الذي صنعه معنا؟] (رسالة 7 : 2، 5 – رسائل القديس أنطونيوس)
  • [إن النفس التي تحب الله والمسيح بالحق، حتى إذا عملت عشرة آلاف من أعمال البِرِّ، فهي تعتبر ذاتها أنها لم تعمل شيئًا. لا تحتمل ولا إلى لحظة أن تكون محرومة من حبها المشتعل للربِّ…. بل بالحري تكون مسمرة دائمًا بكليتها على صليب المسيح.] (القديس أنبا مقار الكبير – كتاب مع المخلص ج2، 340)
  • [ قال أنبا بيمن: إن أنبا إيسيذوروس كان يُضفِّر في كل ليلة حِزمة خوصٍ. فسأله الإخوة قائلين: « أيها الأب، أرح نفسك لأنك قد شخت» . فأجابهم: « لو أحرقوا إيسيذوروس بالنار وذروا رماده، فلن يكون لي فضل، لأن ابن الله من أجلي نزل إلى الأرض.»] بستان الرهبان، أنبا إبيفانيوس. قول رقم 173 ، ص. 98.

خاتمة

هذه كانت أمثلة للأشياء التي ستتغير فينا بسبب آلام الرب، بحسب تعبير القديس أوغسطينوس، بل نحن الذين سنتغير متأثرين بإخصاب آلام الرب ومحبته لتربة قلوبنا، وبذا فإن المزمور  68 (بحسب القبطية والسبعينية) قد كُتِبَ لنا “للذين سيتغيرون” أو لنقل إن آلام الرب وصليبه هي للذين سيتغيرون.

القس برسوم مراد

أسيوط في 10 أبريل 2023 م

 

 

 

[1] St Athanasius Academy of Orthodox theology, The Orthodox Study Bible (USA: Thomas Nelson, 2008), 726.
[2]  رهبان دير القديس أنبا مقار، سفر المزامير: بحسب النص القديم القديم المأخوذ عن النسخة السبعينية (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، ب. ت) مزمور 68.
[3] أوغسطينوس، عظات في المزامير للقديس أوغسطينوس: الجزء الثالث (61 – 79)، ترجمة سعدالله سميح جحا (بيروت: دار المشرق، 2015)، 221 – 23.
[4] See: https://biblehub.com/greek/266.htm
[5] Ibid.
[6] See: https://biblehub.com/greek/115.htm , also: https://biblehub.com/greek/114.htm
[7] See: https://biblehub.com/greek/2961.htm
[8]  المقصود من هذا، أن المسيح بلا خطيئة في جسده.
[9]  كيرلس الكبير، رسائل القديس كيرلس السكندري، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ود. موريس تاوضروس (القاهرة: المركز الأرثوذكسي لدراسات الآباء، 2020)، 165 – 166.
[10] المسيح: في حياته المقدسة وآلامه وموته وقيامته وصعوده وكهنوته السماوي من أجلنا (القاهرة: دار مجلة مرقس، 1994)، 44.
[11]  أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس (القاهرة: المركز الأرثوذكسي لدراسات الآباء، 2003)، 148.
[12]  المرجع السابق، 148 – 155.
[13] See: https://biblehub.com/greek/2673.htm
[14] إيرينيئوس المقاري وآخرون، الترجمة السبعينية للكتاب المقدس: الأنبياء الصغار الاثنا عشر، ( القاهرة: دار مجلة مرقس، 2021)، 310.
[15] إبيفانيوس(الأنبا)، الترجمة السبعينية: سفر إشعياء (القاهرة: دار مجلة مرقس، 2020)، 212 – 13 (حاشية).

شارك المقال مع اخرين

اكتشف المزيد

أعياد
Rakoty CYCS

حياةٌ مِنَ الموت

حياةٌ مِنَ الموت إن فصل الإنجيل لقداس عيد القيامة المجيد والذي قُرأ علينا الآن (يو 20: 1-18) يتضمن مفارقة عجيبة؛ ألا وهي أن الكلمة الأكثر

روحية
Rakoty CYCS

لماذا هذا الموقف من آلام المسيح؟

آلام المسيح تغربلنا «وَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ

روحية
Rakoty CYCS

إشعياء 58 – بركات قبول الصَّوم

رابعًا: بركات قبول الصَّوم «8 حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ، وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعًا، وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ، وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ [شَملك].9 حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ.

عايز تدرس معانا ؟

تصفح العديد من البرامج والدروس المتاحة