الإنسان كائن علاقاتي
مقدمة: نعمة أم نقمة؟ عطية أم ثِقَل؟
الإنسان كائن اجتماعي؛ هناك في داخل كلٍّ منا شيءٌ يقوده إلى إقامة علاقات مع من حوله. لا يريد أحدنا أن يعيش بمفرده، إلا حينما يكونُ مكتئبًا. كثيرًا م يكون الآخر هو فردوسنا ونعيمنا، وطريقنا إلى الملكوت كما يقول القديس أنبا مقار، وأحيانًا كثيرة يكون الآخر هو جحيمنا! حين يكون الحب والفرح هو خبرتنا بالآخر، نشكر الله على عطيته، وحين يكون الألم والخوف هو خبرتنا مع الآخر، نشكو الآخر والله إلى الله! هل كوننا كائنات علاقاتية نعمة أم نقمة؟ عطية أم ثِقَل؟
شأنها شأن العديد من عطايا خلقتنا المميزة مثل: الحرية، والجنس، تصير المجتمعية (العلاقات) ثِقلًا على الإنسان متى أصابها فسادنا وخطيئتنا. هذه هي بالضبط النقطة التي يوضحها دوستويفسكي في قصة (كبير المحققين The Grand Inquisitor) كبير المحققين بدافع تعاطفه مع البشر، يسلبهم حريتهم. ويتهم المسيح «لقد أعطيت الناس حرية لكن ذلك كان شاقاً جداً عليهم، إنها تسبب لهم الكثير من المعاناة. أنا أصلحت فعلتك». إذن، الحرية فعلًا حمل ثقيل، لكن بمجرد التنازل عن حريتنا، نحن نرفض الصورة الإلهية، نصبح ما دون البشر. وإذا حرمنا الآخرين من حريتهم، فبذلك نجردهم من الإنسانية. وكما الحرية هكذا يمكننا أن نفكر ونشعر تجاه الجنس وتجاه العلاقات.
الله المسيحي
يختلف المسيحيون عن اليهود وعن المسلمين في عقيدة أساسية بالنسبة لهم؛ فالله في إيماننا هو واحد حقًا، ولكنه هو أيضًا اتحاد وشركة. عقيدة الثالوث، التي هي بحق صليب للعقل البشري، تقول بأن الله الذي هو واحد في جوهره، هو وحدة واتحاد بين ثلاثة أشخاص/ أقانيم إلهية: الآب والابن والروح القدس. وهذه الأقانيم الثلاثة متساوية ومتحدة في الجوهر وهي متمايزة وفي حالة شركة محبة وعمل دائمة منذ الأزل. الله المسيحي ليس فردًا، بل هو اتحاد.
يقول د. يوحنا زيزيولاس:
وجود الله هو وجود قائم على علاقة والعلاقة تعني شركة وبدون الشركة لا يمكن أن نتكلم عن وجود الله…. وحتى الاعتراف الصحيح بأن «الله واحد» يصبح بلا معنى في اللاهوت المسيحي ما لم يكن هذا التوحيد هو توحيد شركة أي قائم على الثالوث القدوس. فالثالوث هو أول الوجود وهو لذلك لا يُضاف إلى التوحيد وإنما يشرح التوحيد. وحتى عندما نقول إن جوهر الله هو واحد فإننا نفهم أن المقصود هو وحدة الجوهر…. الوجود الحقيقي هو في الشركة ولا وجود بلا شركة…. الشركة هي التي تجعل أي كائن كائنًا فعلًا وأن الكينونة والوجود لا تقوم إلا بالشركة حتى في الله نفسه.[1]
الله في المسيحية هو آب وهذا يكشف لنا عن وجود علاقة في الله؛ إن الآب يلد الابن ويبثق الروح القدس، والأقانيم تقيم في شركة ومحبة دائمة. ومن هنا خلق الله الإنسان على صورته: عائلة ومجتمع وكنيسة. لم يخلق الله أفرادًا تحيا في عزلة؛ إذ لن يكون لها وجود حقيقي، لأن الوجود الحقيقي يتحقق في العلاقة والشركة. لا يمكن لمن يوجد من أجل ذاته فقط أن يفهم وجوده.[2] إذا انعدمت الشركة في جوهر الله، تعذر على الخليقة أن يكون لها شركة. وما يعطيه الله لا يمكن أن يكون منافيًّا أو غريبًا أو مناقضًا لما في كيانه الإلهي من حياة ومحبة وشركة.
الحلول المتبادل بين أقانيم الثالوث (Perichoresis) و عطاء المحبة المتبادل بين الأقانيم الثلاثة، وينعكس في البشر في عطاء العلاقات المتبادل عن حب ورغب في أن يخدم التمايز بينهم وحدتهم. نحن مدعوون أن نكون صورة للثالوث، ليس في تثليث الأقانيم، بل في التمايز والوحدة والمحبة. إذ يجب أن تصبح الكنيسة، كما لو كانت مرآة، إذ نظرنا إليها، نرى انعكاس الحياة الإلهية، الوحدة والشركة والتمايز.
نحن نتحدث عن الفرد الواحد الذي بدون المحبة يتحول إلى كائن بلا حياة حسب كلمات معلم المحبة الحقيقية ربنا يسوع المسيح: «ومن وجد ذاته يضيعها» (مت 10: 39)، أي من احتفظ بكيانه وحياته لذاته فقط، فسقط في بئر الأنانية الذي يقتل الشركة ويقتل تبعًا لذلك المحبة نفسها. نحن نتمايز لكي نشترك (نصير في شركة)، ونشترك لكي ما نحيا ونبقى في الشركة إذا بقيت الحياة، وتبقى الحياة إذا دامت الشركة. الفرد الواحد المنعزل ليس له محبة إلا لذاته، وبهذا فهو يقتل نفسه حسب كلمات الإنجيل: من وجد ذاته يضيعها (مت 10: 39) أي اِحتفظ بكيانه وحياته لذاته فقط، فسقط في بئر الأنانية الذي يقتل الشركة، والذي يقتل بالتالي المحبة.
الله شخص، فلا تخلط بينه وبين الأشياء التي خلقها، أو الأصنام التي خلقها الإنسان
«فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك 1:1)، «1 فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ[3] اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. 2 هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو 1: 1). هاتان الآيتان يبدأ بهما العهد القديم والبشارة بحسب القديس يوحنا؛ ومنهما يتضح أن الله شخص أوجد الكون وأن الله الآب معه كلمته من البدء والكلمة يتجه إلى الآب، أي في علاقة معه. الله مَنْ وليس ما. أمرٌ آخر نعرفه من العديد من سرديات الكتاب المقدس، وهو أن الله يجيب وليس كالأصنام التي لا تجيب. لنعد إلى موقعة جبل الكرمل بين نبي الله إيليا وبين أنبياء البعل: «24 ثُمَّ تَدْعُونَ بِاسْمِ آلِهَتِكُمْ وَأَنَا أَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ. وَالإِلهُ الَّذِي يُجِيبُ بِنَارٍ فَهُوَ اللهُ» (1صم 18: 24). «يَا بَعْلُ أَجِبْنَا». فَلَمْ يَكُنْ صَوْتٌ وَلاَ مُجِيبٌ…. وَلَمَّا جَازَ الظُّهْرُ، وَتَنَبَّأُوا إِلَى حِينِ إِصْعَادِ التَّقْدِمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَوْتٌ وَلاَ مُجِيبٌ وَلاَ مُصْغٍ» (1صم 18:26، 29). «36 وَكَانَ عِنْدَ إِصْعَادِ التَّقْدِمَةِ أَنَّ إِيلِيَّا النَّبِيَّ تَقَدَّمَ وَقَالَ: «أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هذِهِ الأُمُورِ. 37 اسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ اسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هذَا الشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلهُ، وَأَنَّكَ أَنْتَ حَوَّلْتَ قُلُوبَهُمْ رُجُوعًا». 38 فَسَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ. 39 فَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ ذلِكَ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: «الرَّبُّ هُوَ اللهُ! الرَّبُّ هُوَ اللهُ!» (1صم 18: 36- 39)
الله يدعونا إلى علاقة شخصية- شخصية، وليس علاقة شخصية- شيئية. العلاقة الشخصية بالله تعني إيماننا به حقًا وحبنا له، وَليس كفكرة منطقية أو فوق منطقية، بل إلهنا الشخصي الذي يحبنا ونحبه ونحيا به ومعه وله. إلهنا الشخصي الذي يتحدث إلينا ونتحدث إليه، والذي يدعونا فنتبعه. وبالطبع هذه العلاقة الشخصية لها نقطة بداية ومسيرة نمو معرضة لانتكاسات وارتدادات، ولكنها غير متوقفة ومتصاعدة نحو اللانهائية، ورافضة أن تموت وتهلك، بل إن ماتت فهي تموت لتقوم. ورافضة أن تتحول لعلاقة شخصية- شيئية.
اختبار لأحد قديسي الكنيسة اليونانية

«أضأت بنورك عليَّ بشعاعٍ ساطع، فبدا لي كأنك ظهرت لي بكاملك، فكنت بكل نفسي أحدق فيك مكشوفًا. وحينما قلت: «يا سيدُ، مَنْ أنت؟» سُررتَ أن تتكلم لأول مرة أنا الضال. كم تحدثت معي برقة، بينما أقف مندهشًا ومرتعدًا وفكرت قليلًا في نفسي قائلًا: «ما معنى هذا المجد وهذا البهاء الساطع؟ كيف لي أن تختارني لأنال مثل هذه البركة العظيمة؟» فأجبتني «أنا الله الذي صار إنسانًا لأجلك، وَلأنك طلبتني بكل قلبك، ستكون منذ الآن فصاعدًا أخي ووارث معي وصديقي».[4]
العلاقة الأولى وتأثيرها على العلاقات التالية
دعي الإنسان إلى أن تكون أولى علاقاته ليست بالخليقة المنظورة، بل بالخالق، ولهذا تمت خلقة أدم على حسب ما جاء في سردية سفر التكوين: «7 وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. 8 وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ» (تك 2: 7 – 8). ولهذا أيضًا جاءت خلقة حواء على النحو التالي: «21 فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22 وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ» (تك 2: 21 -22). وبهذا تكون العلاقة الأولى في حياة كلٍ من آدم وحواء هو الله، الذي كان الشخص الأول الذي تراه أعين آدم وحواء كلٍ على حده.

حينما تكون العلاقة الإنسانية مع الله في الصدارة ويحفظ الإنسان وصية الله ويحيا في الشركة معه، تكون تاليًّا علاقاته الإنسانية الأخرى مع البشر والخليقة في سلام وألفة ووحدة ومحبة: «23 فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ».24 لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. 25 وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ» (تك 2: 23- 24). أَمَّا حينما يصيب علاقتنا الإنسانية بالله ضررٌ ما من جراء ابتعادنا عنه أو كسرنا لوصاياه، فإن علاقاتنا الإنسانية بعضنا ببعض وبالخليقة تتعرض كلها لإصابات خطيرة وإن لم تُفتد العلاقة، فإنها تسير إلى الموت والهلاك: «12 فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ» (تك 3: 12). «17 وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. 18 وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ» (تك 3: 17-18).
العلاقات تُولد وتُصلَب وتقوم
إن انطباع صورة الله في الإنسان ككائن علاقاتي، لم تتوقف عند حدود حيازة الإنسان على ما يحركه تجاه الآخرين ليكون في علاقة معهم، وأن هذه العلاقات (الشركة) مؤسسة على التمايز والسعي بالمحبة الباذلة نحو الوحدة، إنما اِمتد الأمر إلى حد أن العلاقات أصبحت تجتاز ما اِجتاز فيه ابن الله -من أجلنا ومن أجل خلاصنا- بمسرة أبيه الصالح والروح القدس. إننا نقصد الميلاد- الصليب- القيامة. كيف هذا؟
ميلاد العلاقات
العلاقات تُولد وعادة يصاحب ميلادها الفرح والسلام مثلما كان ميلاد المسيح، وقد يتضفر فرح وسلام الميلاد بالألم، مثلما حدث في ميلاد المسيح أيضًا. هناك كان ظهور الملاك للرعاة وبشارته لهم بالفرح العظيم، وتسابيح الجند السماوي المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. وهناك أيضًا كان الميلاد في مكانٍ غير مهيأ وفي قرية غير قريتنا التي نقيم بها وفقر المزود وتهديد هيرودس. تُولد العلاقات الإنسانية في أجواء مثل هذه؛ قد تكون في أجواء هادئة ومريحة ومفرحة وقد تكون وسط عواصف ومحن الحياة. قد تولد العلاقات في مغارة الميلاد المزينة وموسيقى ترانيم الميلاد، وقد تُولد عند الصليب. على أية حال ها هي العلاقات ولدت وها هي تنمو يومًا بعد يومٍ.
صليب العلاقات

1- لكي ما تنمو العلاقات المباركة نموًا صحيًّا لابد لأطرافها أن يصعدوا على صليب إنكار الذات والطاعة والخضوع. لا شيء يؤذي العلاقات قدر الأنانية والكبرياء والعنف والغضب: «4 لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. 5 فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: 6 الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. 7 لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. 8 وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 4- 8). رفض أحد أطراف العلاقة أن يصعد على هذا الصليب، يُصَعِّب الأمر جدًا على باقي الأطراف، ويُعَرِّض العلاقات للتوقف عن النمو، بل وربما يهدد العلاقات كليًّا: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.» (يو 12: 24).

لكي تستمر العلاقات حية لا بد أن يخدم أطراف العلاقة خدمة المسامحة والغفران، فليست علاقات بلا أخطاء وخطايا. وليست علاقات بلا توبة. وليست علاقات بلا غفران: «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ.» (أف 4: 32).
2- هناك علاقات هي في الأصل مباركة، ولكن فجأة تهددها أهواء شريرة في قلب أحد الأطراف، وهنا قد يطالبنا الروح أن نضعها على مذبح الصليب، لكي تُمتَحن قلوبنا وتتنقى ويصير هناك رجاءٌ وأملٌ في قيامة جديدة لهذه العلاقة وقد تنقت قلوبنا من الأخطار التي كانت تهدد استمرار هذه العلاقة تحت عنوان العلاقات المباركة (مثال: الأبوة والبنوة الروحية) طالب الله إبراهيم بتقديم إسحق على مذبح الأولوية التي تُمتحن بالطاعة. وهكذا قد تُمتحن بعض علاقتنا المباركة بطلب تقديمها ذبيحة لله لكي ما يعرف الرب محبتنا فيه فوق كل علاقة أخرى.
3- هناك علاقات غير مباركة وهذه العلاقات يجب أن نُصلب لها وتُصلب لنا، مثل ما قال القديس بولس عن علاقته بالعالم: «…. صَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غل 6: 14). قطع علاقة غير مباركة يشبه في آلامه أن تُعَلَّق على الصليب، وكلاب الحرمان من تغذيتك لعاطفتك، غير الحرة من الهوى الشرير، تنهش في قلبك وذهنك وجسدك، حتى تكاد تموت. لن تموت أنت، بل ستموت هذه العلاقة الشريرة مثلما مات إنساننا العتيق، غير مأسوفٍ عليه، بموت المسيح على الصليب. مثال ذلك العلاقات الآثمة النجسة، والعلاقات العاطفية المُستَنزِفة للوقت والعقل والمشاعر دون أفق للارتباط الزيجي الناجح.
قيامة العلاقات
العلاقات المباركة متى حمل أطرافها صليب إنكار الذات وغسل الأرجل والطاعة والمحبة الباذلة، فإنها بالصليب تقوم بطبيعة جديدة ليست من هذا العالم. تصير علاقات لهم طعم السماء والأبدية ولها نور ومجد، ويميزها الحب الباذل وغسل الأرجل والصبر الكثير والرجاء المبارك، والصلاة القلبية (مثال ذلك: الزواج المسيحي الناجح- الصداقات والأخوة الروحية – الأبوة والأمومة الجسدية والروحية).
العلاقات التي اجتازت الصليب والقيامة لا ينهيها الموت ولا يحدها موت أصحابها
إننا نقرأ ونسمع كثيرًا عن علاقة القديس البابا كيرلس السادس الفريدة بالشهيد العظيم مار مينا العجائبي، رغم أن ما يفصل بينهما سبعة عشر قرنًا من الزمان! هذا ما نسميه في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية بالشفاعة والشركة مع المؤمنين والقديسين المنتقلين. ليس فقط العلاقات بحسب اللاهوت الأرثوذكسي لا تموت بموت أصحابها، بل أيضًا قد تبدأ بعد موت أصحابها أو أحدهم، كما قلنا للتو بشأن العلاقة الفريدة بين القديس البابا كيرلس السادس وبين الشهيد القبطي العظيم مار مينا العجائبي.
وأود أن أشارك القارئ الحبيب بخبرة روحية أثرت في وجداني؛ منذ بضعة سنوات قضية خلوة روحية بدير العذراء برموس، حيث جسد القديس أنبا موسى الأسود ومعلمه أنبا إيسيذوروس وحيث التراث الروحي للأخوين القديسين لابس الروح مكسيموس ودوماديوس. ولم أكن من قبل قد قرأت ذكصولوجية أنبا موسى أو تلك التي لمكسيموس ودوماديوس. وفي أثناء تسبحة منتصف الليل في الكنيسة مع مجمع الآباء رهبان الدير، وبحضور رفات أنبا موسى وأنبا إيسيذوروس، بدأ مجمع الرهبان بصلاة ذكصولوجية القديسين مكسيموس ودوماديوس: «كوكبا الحق والرئيسان العظيمان اللذان لمجمعنا المقدس مكسيموس ودوماديوس. هذان اللذان جمعنا باسميهما الثالوث المحي لكي نتبع آثارها ونلبس شكلهما المقدس. وسلّما لنا المواعيد المكتوبة في الإنجيل التي هي المحبة الأخوية كمال جميع الفضائل. نُعيد في كنيستهما ونكمّل تذكارهما. ونمجّد الثالوث نهاراٌ وليلاٌ. السلام لكما أيها الصدّيقان السلام للابسي الروح السلام لأبوينا القديسين الروميين مكسيموس ودوماديوس».
لقد شعرت بحضور جارف لهذين القديسين في هذه اللحظات، وتعجبت عن هذه العلاقة التي تربط مجموعة من الآباء الرهبان في القرن الحادي والعشرين باثنين من القديسين عاشا في هذه المواضع منذ ستة عشرة قرنًا من الزمان. الآباء الرهبان يخاطبوا القديسين كرئيسين في مجمعهما المقدس، وأن الذي جمعهم معًا هو حب الثالوث القدوس. وأن مكسيموس ودوماديوس قد سلما لهم الطريق الملوكي الذي لمجمعهم المقدس. ولما حان وقت صلاة ذكصولوجية القديس أنبا موسى الأسود، تكررت الخبرة ذاتها:
«الشهيد الأول القديس الذي كُملّ حسناٌ في جيل شيهات هو أبونا القديس أنبا موسى…. ذهب بالروح إلى العلو إلى مواضع النياح التي أعدها الرب لمحبي اسمه القدوس. وأبقى لنا جسده ومغارته المقدسة لتكمل فيها تذكاره المكرم».
إن مجمع الرهبان تربطهم بالقديس أنبا موسى علاقة بنوة، وهم يخاطبونه أبونا القديس أنبا موسى، ويجلون البركة الروحية ببقاء جسده إلى جوارهم ومغارته عندهم لكي يكملوا تذكاره المقدس. بالحقيقة كانت الكنيسة في تلك الليلة تعج بأرواح القديسين غير المنظورين، ورباط المحبة يجمعهم بأولادهم متخطيًّا حواجز كثيرة كالزمان والمكان والطبائع.
ختام
إن حديث المسيحية عامةً واللاهوت الأرثوذكسي خاصة، عن العلاقات، سيتلاقى كثيرًا مع العلوم الإنسانية وسيتجاوزها كثيرًا أيضًا، لأن العلاقات في اللاهوت الأرثوذكسي ستمتد بجذورها إلى الله تبارك اسمه في طبيعته وأقانيمه، وستتجلى أيضًا في المسيح يسوع كما لو من على جبل تابور، وتضيء بمجد المسيح وسط الحديث عن الصليب والقيامة.
القس برسوم مراد
أسيوط، 16 يوليو 2025 م
[1] يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة (القاهرة: المركز الأرثوذكسي لدراسات الآباء، 2006)، 17 – 19.
[2] المرجع السابق، 23.
[3] καὶ ὁ λόγος ἦν πρὸς τὸν θεόν
[4] كاليستوس وير، الطريق الأرثوذكسي، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد (القاهرة: بيت التكريس لخدمة الكرازة، 2001)، 24.


